• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Mar 01 21 at 04:03 PM

بقلم.. وائل قنديل

رحل طارق البشري، فاندلع حزنٌ شفيف، غمر حقول الإعلام الاجتماعي، ونبّه الناس إلى خطر التآكل الحاد في مساحات الوطنية الحقيقية والثقافة الأصيلة والمهنية المحترمة.
تحوّل طارق البشري من رجل محترم، انتهى وجوده المادي في الحياة، إلى معنى متعدّد المرادفات، يعيش في قاموس الحياة المصرية المعاصرة، بتجلياته المبهرة في الثقافة والسياسة والقانون.
الحزن على فقدان البشري جاء من الذين وافقوه الرأي والرؤية، ومن الذين خالفوه واعترضوا عليه، وخاصموه، ممن يدركون فداحة الخسارة، وخطورة تقلص رقعة الاستقامة في الطرح والكفاءة في المهنة والصلابة، لا التصلّب، في الموقف، والثبات في مواجهة العواصف المحمّلة بكل أتربة القبح والرداءة، ما يضعنا، في نهاية المطاف، أمام حقيقةٍ تعلن عن نفسها: أن المصريين يتضوّرون جوعًا إلى أنموذجٍ محترم في عصرٍ ينتصر للرداءة في كل شيء.
كنت أحسد هذا الشيخ العجوز على رسوخه كالطود في مواجهة افتراءات وبذاءات الذين تعرّوا من كل قيمة إنسانية أو مبدأ أخلاقي، بعد انتصار القوة الغاشمة على الحق في صيف 2013.
حين كان أنفار النخب السياسية والثقافية يتدافعون من أجل الاقتراب من السلطة العسكرية، كان الرجل يعلنها بثبات ووضوح: هذا انقلاب عسكري، ثم شرح بالتفصيل في مقال له في صحيفة "الشروق" بتاريخ 22 يوليو/ تموز 2013 الفرق بين الثورة الشعبية والانقلاب العسكري، وخلص إلى الآتي:
وحدات القوات المسلحة تحرّكت لحماية الدولة وأجهزتها وهيئاتها ونظمها، ثم استغلّ هذا الحراك واستخدم لتحطيم أجهزة الدولة وهيئاتها ونظمها، وانعكس توظيف حركة القوات المسلحة من هدف الحماية والإبقاء إلى هدف الهدم والإنهاء. وأن هؤلاء الذين تحرّكوا بمعدّاتهم، قبل نحو عشرة أيام لم يكونوا يعرفون أي توظيف سياسي ستستخدم حركتهم فيه من جانب قيادتهم. هذه بالضبط هي أساليب الانقلابات العسكرية، وهي أساليب تجعل من تحرّكوا إنفاذا لقرارات قياداتهم ليسوا مسؤولين عن الأهداف السياسية التي حققتها قيادتهم بهذا الحراك.
.. هذا الشيخ الجليل الذي أعلن هذه الحقيقة، وقت هبوب العاصفة العسكرية، فوجد نفسه متهمًا بـ"الأخونة" والعداء للجيش، هو نفسه الذي كان متهمًا قبل عامين فقط بـ"العسكرة" والانحياز للجيش، حين تولّى قيادة اللجنة المشكلة لصياغة تعديلات على الدستور، بعد سقوط حسني مبارك.
هنا تتجلى فضيلة أن تدافع عما تؤمن به وتراه حقًا، مهما كانت فداحة الثمن المدفوع من سمعتك وتاريخك، عقابًا لك على انتصارك للمبادئ والقيم التي عشت بها ولها. ومن هنا، كان المستشار الجليل، بالنسبة لي، ولكثيرين غيري، هو المسطرة الدقيقة التي لا تكذب ولا تخدع لقياس جدارة الموقف وأخلاقية الاختيار، وتحصين الروح والعقل ضد أمواج التشهير والتسفل والابتزاز.
قبل الانقلاب بأيام، شرّفت بجائزة أن أكون متحدّثًا في ندوةٍ لطلبة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مع هذا الراسخ في العلم والرؤية والموقف، طارق البشري. وبعد الانقلاب، كان الشرف الأكبر، بكلام الرجل الذي أكد سلامة موقفي في توصيف ما جرى بأنه انقلاب.
بعد الانقلاب مباشرة، تزاحمت الضباع للنيْل من البشري، ووجدها كل الذين سقطوا في الاختبارات الكبرى فرصةً للتطاول عليه، فلم يجد شخص محدود القيمة، حال مقارنته مع طارق البشري، مثل علي السلمي، ترزي العسكر الذي فصّل لهم وثيقة كريهة الرائحة، ثارت ضدها كل الأطراف، لم يجد غضاضة ولا حرجًا في التصرّف مثل ضبع جائع فينهش البِشري، الممنوع من الكتابة والرد، بمقال يقول فيه "ارتكب "المستشار"، طارق البشري، مجموعة من الخطايا في حق مصر، إذ كان ولا يزال من أهم العاملين على تمكين الجماعة الإرهابية حالياً، الإخوان المسلمين سابقاً، من اختطاف ثورة 25 يناير، والوصول إلى حكم البلاد والسيطرة على مقدّرات الوطن باستغلال الدعاوى الدينية".
لم يسلم البشري، كذلك، من بذاءات وطعنات الذين كان متهمًا بالانحياز إليهم وتمكينهم، فلم يتحمّل بعضهم كلمات هذا الجليل، حين وصف الحالة المصرية بالقول "وقع الإخوان في أخطاء، خاصة بعدما وصلوا إلى الحكم، ورأينا فصائل من التيار العلماني تتربّص بهم، وترفضهم من الأساس، واستغلت قوى الدولة الاستبدادية كل هذه العوامل، لإنهاء التجربة الديمقراطية القصيرة لهذه الثورة؛ ليعود الاستبداد كأشدّ ما يكون، ولا تستطيع تبرئة أحد مما جرى، الإخوان لم يقدّروا الظروف السياسية؛ خاصة وأن هناك من عمل على إفشالهم والقوى المدنية تحالفت مع الاستبداد للإطاحة بالإخوان".
أمام ذلك كله، وقف البشري شامخًا وسامقًا، لا تهزّه عواصف أو زوابع. لذا أدرك أصحاب العقل والضمير أن مساحات هائلة من الضوء انطفأت برحيله، فبكاه الجميع، إلا هؤلاء الذين احترفوا مضغ الروايات الكذوب عما جرى في العشرية الأخيرة.
الخلاصة أنه، في هذا الزمن الأعوج، الذي يمنح فيه بعضهم ألقاب البطولة وأوسمة الفروسية لمجرّد التوقف عن النفاق والخدمة في بلاط سلاطين الانقلاب العسكري، من المنطقي أن يلقى نبأ رحيل المستشار الجليل طارق البشري كل هذا الشجن والحزن، فالرجل لم يعرف الانحناء أمام سلطةٍ قط، ولم يداهن ولم ينافق ولم يعرض خبرته القانونية للبيع في بوتيكات قانونية أو سياسية أو  حقوقية.

أضف تعليقك