• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Mar 03 21 at 04:11 PM

بقلم: سيف الدين عبدالفتاح

أطل علينا صباح الجمعة بخبر مفجع عن فقد المستشار طارق البشري (رحمه الله). الحكيم البشري قاض ومفكر ومؤرخ، جامعة الخبرة ومجمع الحكمة، قاض في أحكامه وعدل في مواقفه ومفكر في سعة أفقه، بوصلته الجماعة الوطنية أينما كانت، وتماسكها في قمة اهتمامه وهمومه، ومؤرخ يرى في التاريخ معملاً لتجارب الأوطان وتفاعل جماعاته الفرعية. وهو صاحب كتاب المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية.

 

والمساواة بين المواطنين في الدولة الحديثة، مسألة محسومة لا تقوم الدولة الحديثة بغيرها، ما كانت المواطنة عبر الوطن هادفة إلى أصول تأسيس الجماعة الوطنية. كما أن امتلاك الميزان والمعيار ميزان يزن به القضايا وتفاعلاتها، ومعيار يعاير به المواقف وأحكامها، ومن ثم كان دائما يراقب حركة الميزان إذا خسر أو طفف وفعّل المعيار حيث وجب تفعيله، لأن في تفعيله تأسيس لفاعلية الجماعة الوطنية وقدراتها، ومن ثم عرف بحكمته.

 

ومن حكمته ذلك الانتقاد الحاد لظاهرة التعصب والتطرف، وحالة الانعزال أو الاستقواء أيا كان مصدرها أو من تصدر لها، وهي الظاهرة التي من طبيعتها ليس فقط غياب الحقائق، والعيش أسرى أوهامها، بل أبعد من ذلك؛ غياب الميزان وافتقاد المعيار الذي يلقي كل ذلك الضوء على جوانب الضعف في دعاة العزلة على الجانبين. ومن حكمة الميزان وميزان الحكمة أن نعتبر أن امتلاك الذات - معيارا أو ميزانا وأوزانا - هو حصن الأمان، وأن مصر بخير بقدر تماسك المصريين من أبنائها واندراجهم في جماعتهم الوطنية. تأتي المسلمات فتظهر ذلك التماسك وتؤكده وتكرسه، وكثيرا ما يعود إلى تجربة تاريخية تثير الاعتزاز، وهي ترابط المصريين ووحدتهم في مواجهة الاحتلال من خلال ثورة 1919.. ها هو التاريخ يأتي من زمنه ليعضد رؤية الحكيم البشري، ويضع النماذج التاريخية.. طرح حكمته فانضمت إلى حكمته حكمة التاريخ وعبرته ودرسه.

 

نستطيع أن نؤكد أن المشروع الفكري للحكيم البشري هو قواعد التأسيس للجماعة الوطنية: إنشاءً واستقراراً واستمراراً. هذا المشروع حاول دوماً أن يرأب الصدع في هذه الجماعة سواء على مستوى الفكر والممارسة، فأكد أن للسياسة بنية تحتية يجب أن تتوافر، وأن للجماعة الوطنية شروطاً تتعلق بإقامة شبكة علاقاتها الاجتماعية وصياغة نسيجها الاجتماعي ضمن صياغات فعّل فيها أدواره المتساندة والمتكافلة (القاضي والمفكر والمؤرخ)، ليؤصل معاني هذا المشروع وقدراته وتفعيله ومستلزماته؛ من الحوار وتجنب الحروب الأهلية الفكرية وصراع المرجعيات، وتأسيس المعايير والموازين التي يجب أن تملكها الجماعة الوطنية بما تحمله من رؤية فكرية وسلوكيات تطبيقية.

 

هذا عن الحكيم، فماذا عن الحكمة التي يحملها مفهوم الجماعة الوطنية الذي نحته البشري الذي يمثل بحق صيحة إنذار وتنبيه (لينذروا قومهم)؟ فإن الرائد لا يكذب أهله أو جماعته الوطنية، وقد تحتد نبرة الحكيم في مقام يتطلب الحدة حين يقوم خطر هذه الأيام وفي العصر الأمريكي؛ بأن تتخلخل الثقة بالمسلمات، وتتزعزع الثوابت في العقول والقلوب. إنه لا يفقد (أي الحكيم البشري) ميزان الحكمة في دراسة مسألة المسلمين والأقباط في إطار الوعاء الحاكم، وهو الجامعة السياسية الوطنية والحكيم - الرائد - المنذر، لا يغفل ظاهرة التراجع في بعض جوانب حياتنا، وفي دوائر الرأي العام، الذي يشيع مناخا غير صحي، مع بروز حالة من التفكك نتيجة ضعف الانتماء الوطني، مما يدفع بعض الأطراف لاستدعاء عشيرتها أو مكان ولادتها أو دينها كانتماء بديل. في ظل المناخ تخرج الحكمة من قلم الحكيم، حكمة ميزان الجماعة الوطنية: "إن كانت ثمة قاعدة يمكن استخلاصها من وقائع تاريخ مصر المعاصر، من زاوية تشكل الجماعة الوطنية واندراج مكوناتها المتعددة والمتنوعة في هذا التشكل، فإن الجماعة الوطنية تتضامن عناصرها وتتماسك قواها بقدر نهوضها الجمعي للدفاع عن مخاطر الخارج عليها، والذود عن أرضها، وعن ثوابتها الفكرية وعن مصالحها السياسية والاقتصادية بعيدة المدى.

 

وإن مخاطر الخارج عليها تعمل فيما تعمل على تفكيك هذا التماسك، فنحن شعوب قامت جماعتها الوطنية وتماسكت في معارك الدفاع عن النفس وعن التراث الجماعي في مواجهة مخاطر الخارج. وإن تيار العزلة ينمو مع زيادة النفوذ الخارجي، وتيار الاندماج ينمو مع قوة المواجهة الوطنية لهذا النفوذ الخارجي".

 

فماذا عن حكمة جامعية المواطنة لهذا النفوذ الخارجي؟

 

".. إن الجماعة الوطنية في مصر متشكلة ومتبلورة، وهي تقوم على أسس فكرية ونظرية وعلى سلوك عملي، وتعتمد على المساواة والمشاركة في الحقوق والواجبات.. على مبدأي الاستقلال السياسي والديمقراطية، وعلى منهج المساواة..

 

فماذا عن حكمة التاريخ وحكمة الفقه في إسناد تلك الحكمة التأسيسية حول الجماعة الوطنية؟

 

"نحن نعلم من مطالعة تاريخ العصر الحديث لأممنا وشعوبنا، أن الجماعات الوطنية فيها بنيت وامتزجت وتضامت صفوفها في جهادها وكفاحها ضد الاستعمار وضد النفوذ الأجنبي، وهي باقية على هذا التوجه..".

 

هذه هي حكمة التاريخ التي تتضام إليها حكمة التوجه الفقهي: ".. ورحم الله الشيخ عبد الوهاب خلاف الذي لاحظ ما معناه أن فقه المسلمين يدور في هذه المسألة مع المودة والصفاء فينفتح ويتسع، أو مع التعارض والبراء فينقبض ويضيق، لأنه فرع يرعى مصالح الجماعة ويدور معها في هذه الأمور..".

 

فماذا عن حكمة المرجعية؟ والتي يوردها الحكيم في معرض عملية الصراع الفكري الدائر في العقدين الأخيرين، إذ لا يقوم - في ظن  الحكيم البشري – بين إسلام ومسيحية، ولا ينبغي أن يقوم بين أي منهما، إنما هو يقوم بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الوضعية العلمانية المنكرة لعنصر الدين في بناء نظم الحياة والمجتمع. والصراع ليس حول أحكام تفصيلية، إنما هو صراع مرجعيات، في المجال الفكري والسياسي والتشريعي.. والمشكلة أن المسألة المسيحية صارت - في ظن البشري - أداة من أدوات هذا الصراع وليست هي الطرف الأصيل فيه.. المسيحيون طرف في موضوع آخر هو موضوع المساواة والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وليس موضوع الصراع بين المرجعيات.

 

حكمة المرجعية تدعو حكمة المواطنة وتعتبرها في سياقاتها لا تهضمها ولا تجور عليها:

 

".. إن الأمر كله يجري في إطار "مفهوم المواطنة"، والجماعة السياسية التي يتشارك فيها المسلمون والمسيحيون من الجماعات التي تشاركت من قبل في تحرير بلادها وتشكيل جماعاتها السياسية، وأن أمر المواطنة بمعناها الحديث الناجم عن تحرير بلادها والناس من وطأة الاستعمار القديم هو أمر مساواة المواطنين في التعامل ومشاركة بينهم في إدارة الشأن العام، ومن ثم فهي تضم تماما الوجود الإسلامي والمسيحي من المواطنين على أساس من المساواة ومن المشاركة الكاملتين..".

 

وحكمة المواطنة تدعو بدورها حكمة التربية والتنشئة:

 

".. مسألة وضع المساواة أو المشاركة بين المواطنين جميعاً - وإن اختلفت أديانهم وتباينت مذاهبهم - وهو وضع محسوم في نظري من حيث التقرير ومن حيث الدفاع عنه ومن حيث تخصيصه، وهو محسوم من الزوايا الفكرية الإسلامية والسياسية والاجتماعية، وينتهي ذلك إلى أن أي مجال يظهر فيه عدم تحقق ذلك ينبغي أن يطرح بأمانة ونزاهة واستقامة من الأطراف جميعاً وبروح المعالجة..".

 

ولكن الحكيم البشري يؤكد أن ما يتحدث عنه في هذا المقام ضرورات "التشكل الثقافي والوجداني بالتربية وبالتلقين، وأهمية أن نشارك جميعاً في طرح الصياغات التي تزيل أسباب الخوف وفقدان الأمن وتحل مشاعر الطمأنينة والثقة، وهذا الشأن في التكوين القبطي مما يعني المصريين جميعا، وينبغي أن يكونوا جميعاً معنيين وأن يساهموا في النتاج الثقافي الذي يروج بين شباب الأقباط بما يكفل من تحقيق هذه الغاية..".

 

قاربت أن أقول "مات الحكيم فكادت أن تموت الحكمة".

أضف تعليقك