• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Mar 04 21 at 02:43 PM

بقلم: وائل قنديل

عاد كاتب صحافي، كان مؤيدًا ثم معارضًا في الداخل، فمعارضًا في الخارج، عاد إلى الداخل مرة أخرى.. ما المشكلة في ذلك؟ ما المشكلة في أن يحدّد كل مواطن مصري اختياراته ومجال حركته بإرادته الحرة، من دون أن يكون متهمًا بالخيانة، من أهل السلطة، وبالعمالة والردّة من جانب أهالي المعارضة؟

 

لم يضرب أحد الزميل، جمال الجمل، على يده لكي ينتقل إلى معارضة نظام عبد الفتاح السيسي من خارج مصر، ويتحمّل تبعات موقفه. ومن العبث كذلك الزعم إن أحدًا ضربه على اليد الأخرى، لكي يقرّر فجأة العودة إلى وطنه، ويعاقب أو يكافأ على اختياره.

 

 

وإذا كنت تعتبر أنّ قفزته إلى الخارج كانت اختيارًا واعيًا وحكيمًا، بالنظر إلى انعدام المساحات المسموح بها لمعارضة حقيقية في الداخل، بل واعتبرت خروجه منتهى الشجاعة والفروسية، فليس من حقك أن تُصادر حقّه في الرجوع، مهما كانت أسبابه ودوافعه، إذ أن حركته في الحالتين كانت اختيارًا حرًا، لا يمكن التسفيه منها أو السخرية منها، أو من الناحية الأخرى اعتبارها الصواب المطلق والفروسية اللامتناهية.

 

قرّر الرجل أن يعود، سواء كانت خطوته هذه عن تصديق ما يقال كذبًا إن حق المعارضة مكفول بالداخل لمن أراد، أو أنّه قرّر أن يلقي بنفسه إلى جحيم المجهول، هربًا من جحيم آخر معلوم بالنسبة له، فإن أبسط قواعد الاحترام أن تتمنّى له السلامة، وتطلب له العدالة، وتدافع عن حريته التي سلبت منه فور عودته.

 

هذه من المفترض أنها بديهيات، سواء كنت مع الشخص أو ضده، فكريًا وسياسيًا، وبصرف النظر عن تقييمه إنسانيًا، طيبًا بإطلاق، أو شريرًا بلا نهاية، وبعيدًا عن مواقفك الشخصية معه، إذ يكفي أنه في محنة، ناجمة عن قرار هو اختيار حرّ ومستحق بالنسبة لأي مواطن، لكي تنتصر لحريته وكرامته الإنسانية وحقه في معاملة محترمة.

 

وإذا كان الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالأحرى بالبشر أن يتواضعوا قليلًا ويكفّوا عن التدخل في اختيارات أحد، وممارسة أي شكل من الوصاية على قراره، أو استثمار المحنة في إدارة عراكٍ بين مجموعات أو شلل جبهوية أو أشخاص.

 

ما أقدم عليه جمال الجمل من المؤكّد أنه جال في خواطر كثيرين في مواقف شديدة الصعوبة مرّت بهم، دفعتهم للموازنة بين "الوطن السجن" و"الغربة العدم" أو ما زالوا واقفين متردّدين على حدّ سكين الاختيار.

 

القصد أن حلم العودة حقٌّ لكل مواطن مصري، بل وواجب عليه أيضًا أن يبقيه حيًا ومتوقدًا في وجدانه، ذلك أن الخروج بالنسبة لكثيرين كان من أجل العمل على استعادة الوطن من الذين خطفوه وأهانوه وجعلوه سجنًا كبيرًا، وليس من أجل البحث عن أوطان بديلة في الخارج .. مع الإقرار بحق كل شخص في الاختيار الفردي، شريطة ألا يعمّم اختياره قانونًا أو قاعدة أخلاقية.

 

وحيث أنّ المسألة صارت "معجنة" بالتعبير الدارج في العامية المصرية، وبما أنّ الأمر صار أقرب إلى بركةٍ آسنةٍ تتعارك فيها الأسماك من كل حجم ونوع، فليس من حقّ أي فريقٍ من المتصارعين على فطيرة النضال في الخارج أن ينصّب نفسه متحدّثًا باسم القضية المصرية. فالشاهد أن ما بين الكيانات والكينونات التي يدّعي كل منها جدارته بحمل لواء المعارضة في الخارج من تباينات وتناقضات، يبدو أنه أكبر بمراحل مما بينها وبين النظام الحاكم، الأمر الذي يشي بأنّ المعركة الأساسية هي المعركة بينها وبين نفسها، وبين بعضها وبعضها الآخر، وليست بينها وبين السلطة.

 

وما دام ذلك كذلك، فلا مصادرة على اختيار أحد حجم معاركه الخاصة ونوعها ومستواها، لكن من دون أن يدّعي أنه يتحدّث باسم "المعارضة المصرية" أو ينوب عن عموم المصريين الذين يئنون من وحشية انتهاكات النظام.

 

في ذلك، يجب أن يدرك الواقفون على أبواب البيت الأبيض، وطالبو الغوث والنجدة والتدخل ضد نظام الانقلاب في مصر، أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، وأن أحدًا لم يفوضهم بمناشدة الرئيس الأميركي، جو بايدن، معاقبة عبد الفتاح السيسي أو الضغط على النظام المصري، كما يفعل مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ذلك أن المسألة برمتها، بالنسبة للجانب الأميركي، ليست سوى تغيير في قواعد وأساليب اللعب مع الاستبداد في الوطن العربي، هذا الاستبداد الذي كشفت التجربة أن الإدارات الأميركية تفضّله على غيره من حكوماتٍ منتخبةٍ من شعوبها بشكل ديمقراطي، والذي يحقق لها عوائد اقتصادية مضمونة، ويوفر لها المعادلات السياسية المنضبطة التي تدير بها المنطقة، وأن القصة كلها تأديب وتهذيب وإصلاح للمستبدين، بما يضمن عدم تجاوز الأدوار  المرسومة لهم.

 

بل إنّ استدعاء التدخل الأميركي، واستدرار عطف ساكن البيت الأبيض، وتسوّل الضغوط منه لا يخدم سوى المستبدّين، إذ يحولهم إلى أبطال قوميين بنظر جماهيرهم ودوائرهم الإعلامية التي تجدها فرصةً لإغراق الساحة عن طريق فتح خراطيم الوطنية الزائفة على الجميع، وادّعاء الممانعة والصمود في وجه الغطرسة الأميركية والإمبريالية والاستعمار والصهيونية العالمية .. إلى آخر هذه الشعارات الفخيمة التي يتقن الطغاة والمستبدّون طبخها وتتبيلها وتقديمها ساخنة، وجبات إجبارية في ساحات الوغى الزائف، وتوجيه مزيد من الاتهامات بالخيانة والعمالة والتآمر ضد الوطن لكل من ينتقدون أو يناقشون السادة مصاصي دماء هذا الوطن.

 

للمرة الألف: الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية محاصيل تزرع في حقول الداخل، بالعرق والكد والنضال، ولا تستورد مجمدة من محلات الخارج.

 

أضف تعليقك