• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Oct 19 21 at 11:36 AM

بقلم.. د. يوسف القرضاوي 

ونعني بالإيمان هنا: العقيدة الإسلامية وأساسها التوحيد، وعناصره ثلاثة أساسية: ألا نبغي غير الله رباً، ولا نتخذ غير الله ولياً، ولا نبتغي غير الله حكماً. وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. 

وبعد التوحيد يأتي الشق الثاني من العقيدة، وهو الإيمان بالرسالة: (وأن محمدا رسول الله) ليس إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثلث إله، ولا محلاً حلّ فيه الإله؛ إنما هو عبد الله ورسوله، أنزل الله عليه كتابه، وبلَّغ ما أوحي إليه من ربه، لم يخن ولم يكتم، ولم ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:4). 

ومن أركان هذه العقيدة التي بلَّغها محمد عن ربه: الإيمان بالآخرة والجزاء، وأن الموت ليس نهاية المطاف، وأن وراء هذه الحياة الفانية حياة أخرى باقية، تُوفَّى فيها كل نفس ما كسبت، وتُجزى بما عملت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7،8). 

وقد روى الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليَخْلَق في جوف أحدكم، كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم"(1). 

أهمية الإيمان في حياتنا 

والإيمان في حياتنا -نحن المسلمين- ليس شيئاً على هامش الحياة. إنه جوهر وجودنا، وسرُّ بقائنا، ولبُّ رسالتنا... وبدونه لا معنى لحياتنا ولا مُبرِّر لوجودنا.. وإذا كان لكلِّ شخصية مفتاح، تستطيع إذا عرفته واستخدمته أن تعرف به مكنوناتها، وتُفَجِّر مخزون طاقاتها، فإن مفتاح شخصية الإنسان في أمتنا هو الإيمان. 

وكما أنك بلمسة للمفاتح أو زر خاص للسيارة في البر، أو الباخرة في البحر، أو الطائرة في الجو... تستطيع أن تحركها وتدفع بها إلى الأمام، وتقطع بها المسافات، فكذلك نستطيع بعامل الإيمان أن نُحرِّك كوامن هذه الأمة، ونصنع منها وبها العجائب وروائع البطولات، التي تُحكى كالأساطير. 

لقد عزف عازفون على نغمات شتَّى لتحريك هذه الأمة، فما تحركت ولا استجابت. عزفوا على نغمة القومية، وعلى نغمة الاشتراكية، وعلى نغمة الديمقراطية (2)، فما صنعوا شيئاً غير النكسات والوكسات! ولكن حين تقود هذه الأمة بالمصحف ترفعه، أو حين تصدع بصيحة (الله أكبر) وحينما تنادي: يا ريح الجنة هبي، ستجد الجماهير معك ووراءك بالملايين مستعدة للموت في سبيل الله. 

وهذا الإيمان المرصود في فطرة الأمة، المذخور في كيانها المعنوي، أشبه ببذرة طيبة في أرض طيبة، يجب علينا أن نرعاها وننميها ونتعهدها ونُغذِّيها من ناحية .. وأن نحميها ونحافظ عليها من المواد السامَّة، والحشرات الضارة، من ناحية أخرى، حتى تنمو وتزهر وتثمر، وتُؤْتي أُكلها بإذن ربها. 

حاجتنا إلى تربية إيمانية حقيقية 

ولهذا كنا في حاجة إلى تربية إيمانية حقَّة، تزرع في القلوب المعاني الربانية الأصيلة: الخشية من الله، والرجاء فيه، والأُنس به، والحب له، والرضا عنه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والطاعة لأمره، والتسليم لحكمه، وحكم رسوله، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:654)، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور:51). الإيمان بالله الذي ترجى رحمته، ويخشى عقابه {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:98). 

ومن عناصر هذه التربية: استحضار معاني الآخرة وما يتعلق بها: الموت وسكرته، القبر وضمّته، البعث ورهبته، الحشر وزحمته، الموقف وشدّته، الحساب وسرعته، الكتاب وقراءته، الميزان وعدالته، الصراط ودقّته، الجنة ونعيمها، النار ولهيبها. 

حاجتنا إلى الصوفية الربانية المعتدلة 

وبعبارة أخرى: نحن في حاجة إلى لون من الصوفية الربانية الإيجابية المعتدلة، التي عبَّر عنها بعضهم بأنها: الصدق مع الحق، والخُلُق مع الخلق، وإليها يشير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128). وهذا هو روح الدين الحق: التقوى لله، والإحسان للناس؛ فالتصوف الحقيقي تقوى وأخلاق، قبل كل شيء. 

وينقل ابن القيم في (مدارج السالكين) عن بعض متقدِّمي الصوفية في تعريف التصوُّف قوله: التصوُّف هو الخُلق، فَمَنْ زاد عليك في الخُلق فقد زاد عليك في التصوف (3). ويعلِّق ابن القيم قائلا: بل الدين كُّله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين، وكذلك التقوى. 

فهذا هو التصوُّف الذي نريد: تصوُّف التربية والأخلاق القرآنية والنبويَّة، التصوف الذي يغذِّي الإيمان، ويرقِّق القلوب، ويُحرِّك الدوافع، ويشحذ الإرادة، ويُهذِّب النفس، ويقوِّي السلوك الخيّر للإنسان، في ضوء الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح، فهو الذي نحرص عليه، وندعو إليه، وهو الذي يقوم بمهمة (التزكية) التي أشار إليها القرآن في معالم الرسالة المحمديَّة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة:2). وهو (مقام الإحسان) الذي جاء في حديث جبريل المشهور، وعرَّفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4). 

التصوف السلبي المرفوض 

أما إذا كان التصوف سلبية كالتي عبَّر عنها بعضهم بقوله: دع الخلق للخالق، واترك الملك للمالك! يريد تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مرفوض، ومثل ذلك قولهم: أقام العباد فيما أراد! فهو كلام حق يراد به باطل! 

وإذا كان التصوُّف إلغاء شخصية المريد أمام شيخه، كما قالوا: من قال لشيخه: لِمَ؟ لم يفلح! وقالوا: المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل! فهو كذلك مرفوض. 

وإذا كان التصوُّف تفرقة بين الحقيقة والشريعة، كالذين قالوا: من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم! فلسنا منه في شيء. 

وإذا كان التصوُّف كهانة وتجارة بالدين لدى العوام، الذين يقادون بالأساطير والمبالغات، وتصنع لهم التمائم والأحجية والتعاويذ، الحافلة بالتهاويل، وتقدّم لهم الثقافة المنوّمة للعقول، المخدّرة للعزائم، فهو باطل نبرأ منه. 

وإذا كان التّصوف رفضا للعلم وطلبه من أهله بوسائله، واعتمادا على الذوق والوجدان، دون دليل من شرع، أو احتكام إلى كتاب محكم أو سنة صحيحة، فهو تصوف شيطاني لا رحماني، وهو مرفوض عندنا وعند كل مسلم حريص على دينه. 

وبالجملة: إذا كان التصوُّف مباءة للخرافات في الفكر، والشركيات في العقيدة، والمبتدعات في العبادة، والانحرافات في الأخلاق، والسلبيات في السلوك، والإهمال للحياة، فنحن أول من يحاربه. إنما نريد التصوف السني الملتزم بالكتاب والسنة ، الذي سماه العلامة أبو الحسن الندوي "ربانية لا رهبانية!". 

......... 

(1)  رواه الحاكم في الإيمان (1/4)، وقال: هذا حديث لم يخرج في الصحيحين ورواته مصريون ثقات، وقال الذهبي: رواته ثقات. وقال الهيثمي في المجمع (1/212): رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن، وحسنه الألباني في الصحيحة (1585). 

(2) المحرر : بمتابعة ما كتبه الشيخ حول المصطلحات الثلاثة (القومية ، والاشتراكية ، والديمقراطية) يبدو بوضوح موقفه منها وأنه لا يرفضها بالكلية وإنما يقبل منها ما يتوافق مع قيمنا الإسلامية .. وهو هنا لا يقف منها موقف الرفض المطلق وإنما ساقها في معرض التعويل علي البدء بها قبل الإيمان قبل تغيير الإنسان. 

(3) مدارج السالكين (2/307). 

(4) متفق عليه: رواه البخاري (50)، ومسلم (9) كلاهما في الإيمان، كما رواه أحمد (9501)، وابن ماجه في المقدمة (64) عن أبي هريرة. 

 

أضف تعليقك