• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Feb 20 22 at 01:03 AM

منْهَجٌ مُؤَثِّـر

على أن هذه الإشراقة اللامعة، بلغت من التأثير الدائم في واقع الحياة البشرية، قدر ما بلغته من البهاء والرفعة، ومن العظمة والكمال. وخلفت في واقع البشرية التاريخي من الآثار الباقية، ما قد يجعل الجيل الحاضر من هذه البشرية اليوم أقدر على المحاولة من سائر الأجيال التي خلت - بعد تلك الصفوة المختارة من رجال الصدر الأول - وذلك بمساعدة التيارات التي أطلقتها، والرواسب التي خلفتها، في التصورات والقيم، وفي النظم والأوضاع سواء.

وسنحاول في هذا الفصل أن نلم - في اختصار وإجمال يناسبان طبيعة هذا البحث المجمل المختصر- بلمحات عن آثار هذه الاشراقة الوضيئة الفريدة، لا في تاريخ الأمة الإسلامية وحدها، ولكن كذلك في تاريخ البشرية بجملتها.

  • * *

لقد استطاعت تلك الفترة ان تنشيء في واقع الحياة البشرية عدداً كبيراً من الشخصيات النموذجية، تتمثل فيها الإنسانية العليا، بصورة غير مسبوقة ولا ملحوقة. صورة تبدو في ظلها جميع الشخصيات البشرية التي نشأت في غير هذا المنهج، أقزاماً صغيرة، أو كائنات لم تستكمل وجودها بعد، أو كائنات غير متناسقة على كل حال!.

ولم تكن هذه الشخصيات النموذجية التي أخرجها المنهج الإلهي في تلك الفترة القصيرة آحاداً تعد على أصابع اليدين؛ إنما كانت حشداً كبيراً؛ يعجب الباحث كيف انبثقت هكذا سامقة ناضجة إلى هذا المستوى العجيب، في هذه الفترة القصيرة المحدودة. ويعجز عن تعليل انبثاقها على هذا النطاق الواسع؛ وعلى هذا المستوى الفارع، وفي مثل هذا التنوع من النماذج... ما لم يرد هذه الظاهرة الفريدة إلى فعل ذلك المنهج الفريد.

والمهم أن نعرف ان هؤلاء الناس، الذين تمثلت فيهم نماذج الإنسانية العليا: النماذج التي ظلت فريدة في سموقها، وظلت سائر النماذج على مدار القرون تبدو في ظلها أقزاماً صغيرة، أو كائنات غير تامة الوجود... المهم أن نعرف ان هؤلاء الناس الذي حققوا ذلك المنهج الإلهي في حياتهم على هذا النحو العجيب، قد ظلوا - مع هذا - ناساً من البشر لم يخرجوا عن طبيعتهم، ولا عن فطرتهم؛ ولم يكبتوا طاقة واحدة من طاقاتهم البانية، ولم يكلفوا أنفسهم كذلك فوق طاقتهم… لقد زاولوا كل نشاط إنساني، وأصابوا من الطيبات كل ما كان متاحاً لهم في بيئتهم وزمانهم… لقد أخطأوا وأصابوا، وعثروا ونهضوا ، وأصابهم الضعف البشري أحياناً - كما يصيب سائر البشر - وغالبوا هذا الضعف، وانتصروا عليه أحياناً أخرى...

والمعرفة بهذه الحقيقة ذات أهمية قصوى. فهي تعطي البشرية أملاً قوياً في إعادة المحاولة؛ وتجعل من واجبها - بل تجعل من حقها - أن تتطلع إلى هذه الصورة الوضيئة الممكنة، وأن تظل تتطلع. فهي صورة من شانها أن تزيد من ثقة البشرية بنفسها، وبفطرتها، وبمقدراتها الكامنة، التي يمكن - عندما يوجد المنهج الصالح- ان تبلغ بها إلى ذلك المستوى الإنساني الرفيع الذي بلغته مرة في تاريخها … فهي لم تبلغه بمعجزة خارقة لا تتكرر . إنما بلغته في ظل منهج من طبيعته ان يتحقق بالجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية.

ولقد انبثق ذلك الجيل الفارع العظيم، من قلب الصحراء، الفقيرة الموارد، المحدودة المقدرات الطبيعية والاقتصادية والعلمية... وعلى كل ما كان في هذه البيئة من الموافقات المكونة لهذا الانبثاق الهائل العجيب، فان البشرية - اليوم وغداً- ليست عاجزة بفطرتها، ولا عاجزة بمقدراتها، أن تنجح مرة أخرى في المحاولة، إذا هي اتخذت ذلك المنهج قاعدة لحياتها.

ولقد ظل هذا المنهج - على كل ما ألم به على مدى الزمن من انحرافات ومن خصومات ومن هجمات - يبعث بنماذج من الرجال، فيها من ذلك الجيل الأول الفارع مشابه، وفيها منه آثاراً وانطباعات... وظلت هذه النماذج تؤثر في الحياة البشرية تأثيرات قوية، وتؤثر في خط سير التاريخ البشري، وتترك من حولها ومن ورائها تيارات ودوامات هائلة تطبع وجه الحياة، وتلون سماتها.

وما يزال هذا المنهج قادراً في كل حين، على ان يبعث بهذه النماذج، كلما بذلت محاولة جدية في تطبيقه وتحكيمه في الحياة. على الرغم من جميع المؤثرات المضادة، وعلى الرغم من جميع المعوقات من حوله وفي طريقه.

والسر الكامن فيه هو تعامله المباشر مع الفطرة؛ واستمداده المباشر من رصيدها المكنون. وهو رصيد هائل، ورصيد دائم. وحيثما التقى مع هذا المنهج تفجرت ينابيعه الثرة، وفاض فيضه المكنون!.

  • * *

واستطاعت هذه الفترة ان تقرر في واقع الحياة البشرية مبادئ وتصورات، وقيما موازين، لم يسبق أن تقررت في تاريخها كله، بمثل هذا الوضوح، وبمثل هذا العمق، وبمثل هذا الشمول للنشاط الحيوي كله. ولم يقع كذلك ان تقررت هذه المبادئ والتصورات والقيم والموازين في واقع البشرية مرة أخرى - وفي ظل أي منهج وأي نظام في الأرض كلها - بمثل هذا الوضوح، وبمثل هذا العمق، وبمثل هذا الشمول للنشاط الحيوي كله... ثم- وهذا هو الأهم- بمثل هذا الصدق والجد والإخلاص والتجرد الحقيقي العميق.

وقد تناولت هذه المبادئ والتصورات، وهذه القيم والموازين، كل قطاعات الحياة الإنسانية، تناولت تصور البشرية لإلهها، وعلاقاتها به. وتصورها لهذا الوجود الذي تعيش فيه وعلاقتها به، وتصورها لغاية وجودها الإنساني ومكانها في هذا الكون ووظيفتها...

كما تناولت - تبعاً لذلك- تصورها لحقيقة الإنسان، وحقوقه وواجباته وتكاليفه، والقيم التي توزن بها حياته ونشاطه ومكانته، والتي تقوم عليها علاقاته بربه، وعلاقاته بأهله، وعلاقاته بأبناء جنسه، وعلاقاته بالكون والأحياء والأشياء. ومما تناولته... الحقوق والواجبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. والأنظمة والأوضاع والروابط التي تنظم هذه الحقوق والواجبات وبالجملة كل قطاعات الحياة الإنسانية في شتى صورها وجوانبها الكثيرة.

وقررت في هذا كله حكمها الذي يفردها ويميزها، ويجعل لها طابعها الرباني الفريد..

وقد تم هذا كله في وسط محلى معاد لمثل هذه المبادئ والتصورات، ولهذه القيم والموازين... وفي وسط عالمي منكر لأساس هذه المبادئ والتصورات والقيم والموازين.. وفي ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية وعقلية ونفسية - محلية وعالمية - من شأن ظواهرها ان تصادم هذه الاتجاهات التي قررها الإسلام في واقع الحياة البشرية، للمرة الأولى، أو على الأقل لا تساعدها على الحركة الطليقة. معتمداً في نجاحه - قبل كل شيء - على رصيد الفطرة البشرية من الاستعداد للاستقامة على المنهج الإلهي- الموافق في صميمه لهذه الفطرة - قبل ان تغشيها المؤثرات السطحية- وعلى استثارة هذا الرصيد، واستنقاذه من الركام الذي ران عليه. وهو رصيد ضخم، يكفي - حين يوجد المنهج الذي يستنقذه من التبدد والانطمار - لمقاومة تلك المؤثرات السطحية ، التي يظن بعض قصار النظر أنها تمثل كل شيء في حياة الإنسان... والإسلام لا يغفل هذه المؤثرات ولا يهمل آثارها في الحياة البشرية، ولكنه لا يقف أمامها مستسلماً، باعتبارها "أمراً واقعاً" لا فكاك منه. بل يلجأ إلى استنقاذ رصيد الفطرة؛ وتجميعه ، وتوجيهه، لتعديل الواقع، في رفق وتؤدة- على نحو ما بينا من طريقته في العمل في الفصل السابق- وينتهي إلى مثل ما انتهى إليه في تلك الفترة، في مواجهة تلك الظروف المناوئة، المحلية والعالمية، وتحويلها إلى ظروف مواتية. كما حدث بالفعل في الجزيرة العربية. وفيما وراءها كذلك!.

والبشرية اليوم قد تكون - في بعض الجوانب - أحسن حالاً وظروفاً منها يوم جاءها هذا المنهج، واحدث فيها - في فترة قصيرة- ذلك الانقلاب الشامل، وتلك الثورة العظمى- في رفق ويسر وانطلاق- وقد تكون أقدر على العمل بهذا المنهج- للأسباب التي سنبديها في فصل تال - وقد تكون طاقتها اليوم على حمله أكبر. وبخاصة حين نعرف أن رصيد الفطرة الإنسانية- على الرغم من كل ما يرسب فوقه من ركام الفساد والشر والانحراف ؛ وعلى الرغم من كل ما يبدده ويسحقه من الأوضاع المادية والمؤثرات الاقتصادية والفكرية - قادر على أن ينتفض، ويتجمع، ويعمل، حين يفلح المنهج في استنقاذه وتجميعه وتوجيهه، وإطلاقه في الخط المتناسق مع فطرة الإنسان، وفطرة الكون، كما خلقها الله. وان هذا الرصيد من الأصالة، والعمق، والضخامة، بحيث يرجح سائر العوامل الأخرى، التي تأخذ صورة "الواقع" ... فما بال إذا كان بعد هذه العوامل اليوم في صفه وفي اتجاهه؟

إن "الواقع" الخارجي يتراءى، لمن لا يعرفون طبيعة هذا المنهج، كما لو كان هو الحقيقة التي لا سبيل إلى تغييرها، ولا سبيل إلى زحزحتها، ولا سبيل إلى التمرد عليها!.

ولكن هذا ليس إلا وهماً كبيراً. فالفطرة البشرية "واقع" كذلك. وهي ليست على استقامة مع هذا الواقع الظاهري؛ بدليل أنها تشقى به في مشارق الأرض ومغاربها. وحين تصطدم الفطرة بوضع من الأوضاع، أو بنظام من النظم، فقد تغلب في أول الأمر، لأن وراء هذا الوضع أو هذا النظام قوة مادية تفرضه فرضاً، ولكن الذي لا شك فيه ان الفطرة أقوى واثبت من كل وضع طارئ عليها، ومن كل قوة تسند هذا الوضع الطارئ. ولابد لها من أن تغلب في النهاية. وبخاصة حين يقودها منهج طبيعته من طبيعتها..

وقد حدث هذا مرة يوم واجه ذلك المنهج الإلهي "واقع" الجزيرة العربية، وواقع الأرض كلها. فانتصر على هذا الواقع انتصاراً رائعاً، وبدل قوائمه التصورية والعملية، وأقامه على أسس جديدة.

وهذا الذي حدث لم يتم بمعجزة خارقة لا تتكرر. ولكنه تحقق - وفق سنة الله الدائمة- بجهد بشري، وفي حدود الطاقة البشرية... فدلت هذه السابقة على إمكان تكرار هذه الظاهرة.

فما بال إذا كانت التيارات التي أطلقتها تلك الفترة، والرواسب التي خلفتها، في حياة البشرية، وفي الواقع التاريخي، كلها عوامل مساعدة في المحاولة الجديدة؟


واستطاعت تلك الفترة ان تقر في حياة البشرية تقاليد عملية، وأوضاعاً واقعية- تستند إلى تلك المبادئ والتصورات والقيم والموازين- لم تمت وتذهب بانقضاء تلك الفترة. ولكنها امتدت في صورة تيار متحرك، مندفع إلى مسافات بعيدة في الأرض، والى أحقاب متطاولة من الزمان. وتأثرت بها الحياة البشرية كلها - على صورة من الصور- وأصبحت رصيداً للبشرية كلها، تنفق منه وتستمد اكثر من ألف عام.. رصيداً يؤثر في تصوراتها، ويؤثر في أوضاعها، ويؤثر في تقاليدها، ويؤثر في علومها ومعارفها، ويؤثر في اقتصادها وعمرانها، ويؤثر في حضارتها كلها تأثيرات متفاوته، ولكنها مطردة فاعلة في كل ركن من أركان الأرض. وما تزال بقايا من ذلك التيار تعمل في واقع الحياة البشرية حتى اليوم، على الرغم من جميع القوى التي وقفت في وجه هذا المد الغامر، وعلى الرغم من النكسة أو النكسات إلى الجاهلية والإغريقية والجاهلية الرومانية، في العالم الغربي، الذي سيطر على مقاليد الأرض أحقاباً متطاولة!.

وقد استقرت في حياة البشرية من وراء هذه التأثيرات الواقعية مبادئ وقيم، ونظريات وأوضاع، قد تجهل البشرية اليوم مصدرها الأصيل، وقد تردها إلى مصادر أخرى غير ذلك المنهج المؤثر. ولكنه ليس من المتعذر معرفة اصلها الأول، والرجوع بها إلى فعل المنهج الإلهي، وآثاره في الحياة البشرية. وسنشير في فصل تال إلى بعض الخطوط العريضة التي انتهت البشرية إلى إقرارها اليوم، وكانت منكرة لها اشد الإنكار يوم جاءها بها الإسلام، أول مرة، منذ نيف وثلثمائة وألف عام!.

ولعله من شأن استقرار هذه الخطوط العريضة في حياة البشرية وأوضاعها الحاضرة، بعد الإنكار الشديد لها يوم جاءها بها الإسلام أول مرة، ان تكون البشرية اليوم اقرب - بصفة عامة - إلى تفهم هذا المنهج، وأقدر كذلك على حمله، ولديها منه رصيد واقعي، خلفته موجة المد الأول، لم يكن لديها يوم جاءها أول مرة! ولديها كذلك رصيد من تجاربها الخاصة، في فترة التيه والشرود عن هذا المنهج، وما أصبحت تعانيه اليوم من أثار هذا التيه وهذا الشرود- مما سبقت الإشارة إليه باختصار- فهذه وتلك قد تكون من العوامل المساعدة على تقبل المنهج الإلهي، والصبر عليه في الجولة القادمة... بإذن الله...

  • * *

ولعله يحسن الآن - وقد وصلنا إلى هذا الحد من الإشارات المجملة - ان نفصلها بعض التفصيل، بذكر شيء من مدلولتها الواقعية في الحياة البشرية، من خلال الواقع التاريخي، وبتفصيل شيء من رصيد الفطرة الذي واجه به الإسلام واقع البشرية فانتصر عليه، وقرر منهجه في وجه ذلك الواقع..

من كتاب "هذا الدين" للشهيد سيد قطب رحمه الله.

 

أضف تعليقك