أيها الراحل مهلاً، قد أثرت النفس بكريم خصالك، أيها الذاهب إلى رب؛ ليكون شاهدًا ترفق، وتمهل، توشك القلوب أن تنخلع لفراقك، ويوشك الألم أن يقطع نياط القلوب، كم عهدناك طريقًا للخلاص والتحرر من قيد الذنوب، أيها الراحل رفقًا بقلوب هدَّها شوق إلى رب كريم، كم أسلنا العين، واغتسلنا من خطايا الآثمين، إنني اليوم أناجي وبعزم لا يلين، ما أقسى مرارة فراقك، ما أقسى ألم البعد، اعلم أنَّ ما مضى لن يعود، وأنَّ كل ساعة للخير فيك لن تعود، آه ما أقسى فراق الأحبة، وما أشد جروح النفس.
إنها سويعات، ثم يؤذِّن مؤذنٌ بالرحيل، اسكبوا العبرات يا خير العباد على ضيف أتانا كالنسيم، ومضى كالنسيم، يا حبيبًا علَّمنا خير الخصال، كيف لنا أن ننسى ساعات الخير ولحظات الفيض الرباني بفراقك، أنت اليوم تودعنا، ونحن سنبكيك ما دمنا على العهد ما بدلنا، انفضَّ سوقُك، وربح من ربح، وخسر من خسر، غدًا تبكيك التراويح، وتبكيك التسابيح، وتبكيك عيون القاتمين في جوف الليل، بين قائم، وراكع، وساجد، غدًا تبكيك مآذننا، وتنعيك أيام البر والإحسان، والخير والإكرام.
غدًا تستوحش المساجد زوارها، وتنادي الأرض من عمروها بسجود، غدًا يبكيك الأرحام الذين استشعروا قيمة أن يوصلوا فيك، غدًا يشرق يوم جديد، وشهر جديد، وتكون قد مضيت إلى ربك بأعمال العباد.
غدًا يبكيك المساكين والفقراء وأبناء السبيل…
غدًا تبكيك صدقات، وزكاوات ادخرها العباد فيك…
هل تكون شاهدًا لنا أم علينا يا رمضان؟
هل سيطول بنا المقام لندركك في العام المقبل، أم سيكون الثرى قد وارى أجسادنا، والغربة قد أحاطتنا بعدما فارقنا الأهل والأحباب؟
هل سنرتِّل القرآن كما رتلناه فيك؟
هل سنصل الأرحام كما وصلناهم فيك؟
هل سنداوم على القيام كما كنا فيك؟
هل سنهذب أخلاقنا كما كنا فيك؟
هل ستبكي علينا كما نبكيك؟
حين نودعك نودّع فيك الأب الحنون، والأمَّ الرءوم، والابن البار، حين جئتنا كنا كشياه شاردة في ليالٍ شتاء مظلمة، فجمعتنا بعد فرقة، وقويت عزائمنا بعد ضعف وخور، كم تنادت المآذن، كم رتَّلَ فيك المرتلون، وكم تهجَّد فيك المتهجدون في الخلوات، فإلى لقاء يا حبيب إن كان في العمر بقية، إلى لقاء يا حبيب إذا شاء الله تعالى وأراد، لكن تُرى هل سنبقى على العهد أوفياء؟
لقد تركتنا يا حبيبًا طرق أبوابنا فملأ الكون خيرًا وبركة، لكن هل يا ترى ستكونُ شاهدًا لنا أم علينا؟ لقد رحل رمضان، ولن تسقط من الذاكرة تلك المناظر التي كان شاهدًا عليها، “الأوابين، والقائمين، والراكعين، والساجدين، والتائبين، والمستغفرين”، ومناظر أولئك الذين ضيَّعوا أغلى الساعات أمام التلفاز والفضائيات، وتباروا في تضييع أوقاتهم، فقلبوا نهارهم ليلاً هروبًا من عضة الجوع، وقلبوا ليلهم نهارًا، أمضوه في السمر، والسهر، رحلت عنا بعد أن أدميت قلوبنا، ويبقى عزاؤنا أن نكون على العهد أوفياء، لعلنا لا نلقاك فنؤجر بنيتنا.
أضف تعليقك