• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

قمة الصالحات.. الأيام العشر.. حيث تزدان الأرض بوفود الحجيج، وتتجمل السماء بنور الملأ الأعلى، وتتألق الكعبة في سرة الأرض وفي وسط الدنيا يطوف بها العباد فيزدادون إيمانا ويتألقون إحسانا ويتخففون ذنوبا وآثاما...!!

السباق إلى الخيرات سباق إلى جنات أعدها رب الأرض والسماوات ...!! إنها قمة تجمع بين الفروض كلها فيها إنفاق وزكاة وفيها صلاة، وفيها صوم حتى عن الكلام.. وفيها الشهادتان فضلا عن التهليل والذكر والتكبير.. وتجمع بين الأخلاق ففيها هجرة إلى الله وفيها إخلاص لله وفيها تضحية وفداء وفيها عفو وصفاء وفيها تسامح وتصالح وتصافح..!! جهاد لا شوكة فيه وغنى لا فقر معه ونداء لا لبس فيه {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم}

تتسارع الأيام وتمر الأعوام، تتوالى الليالي وينقضي الزمن، والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب!!

في هذه الأيام العشر يكثر التهليل والتكبير والدعاء على المسلم أن ينظف صفحاته ويطهر سجلاته، وينقي عباراته ويغض نظراته ويرشد خطواته قبل أن يلقي حتفه ويقابل ربه فيعرض عليه أعماله {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة]، لذلك يجب أن يقف الإنسان مع نفسه، يأخذ العبرة، ويسترشد المعني، ويستلهم الدرس، ليجدد في قلبه النشاط، ويثير فيه الحماس، ويزرع فيه الأمل، ويحثه على العمل، ينير له الطريق، ويبعث فيه روح الفريق.

كل يوم يمر علينا من لقاء الله خطوة ولا ندري كم بقي من أعمارنا، بعض خطوة، أم خطوة، أم خطوات، يقول الحسن البصري رضي الله عنه: إنما أنت أيها الإنسان أيام مجموعة، فإذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك.. إذا مر يوم من حياتك فقد وقعت ورقة من شجرتك، وطويت صفحة من صفحاتك، وهوي جدار من بنيانك..!!

ويقول عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ..نعم الليل والنهار يعملان فيك كيف؟! يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويفلان كل حديد..! " اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك  فقرك". حديث صحيح، واشد لحظات العتاب مع النفس واقوي لحظات اللوم للانسان واشد

 ساعات الندم حين يُقابِل  بصحيفة عمله، فيَرى فيها الخزْيَ والعار؛ قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23-24]، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56]، فالعاقل مَن ندِم اليومَ حيث يَنفعه الندم، واستقبل لحَظات عمره، فعمَّرها قبل أن يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه الندم.

هذه مواسم طاعة وأسواق أخلاق ومصانع أرزاق  فيها تلبية لنداء الله "لبيك اللهم لبيك"، وفيها اكتساب أخلاق {الحج لأشهر معلموات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، وفيه زيادة في الأرزاق ((الحج والعمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد الذهب والفضة)).

إنه مزرعة للأخلاق الحسنة والقيم العالية والآداب الرفيعة؛ حيث يتأدب الحاج مع الشجر، فلا يقطع ومع الطير فلا يقتل ومع الإنسان فلا يشتم ومع البيت فلا يلحد {ومن يرد فيه لإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} فيحرص على كل لحظة طائعا لله مهتما باخراه زاهدا في دنياه ...!!

كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إذا أمسيت فلا تَنتظِر الصَّباح، وإذا أصبحتَ فلا تَنتظِر المساء، ويقول الحسن البصري: "يا بن آدم، نهارُك ضيفُك؛ فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنتَ إليه ارتحَل بحمدِك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، أنت بين يوم مشهود، ويوم موعود؛ فقدِّم لليومينِ، واعمل للدارين؛ إنه موسم تجارة وسوق عبادة  "يجبي اليه من ثمرات كل شئ" فهو قوة روحية بالذكر والدعاء وقوة اقتصادية بالبيع والشراء وقوة اجتماعية بالحب والإخاء وقوة سياسية بالتشاور وبحث الآراء..!!

أمر الله تعالى المؤمنين الصالحين بالمسارعة إلى الصالحات والمسابقة في عمل الخيرات, قال سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة]

ووصف عز وجل المؤمنين المتقين بأنهم هم الذين يسارعون في الخيرات ويتسابقون إلى فعلها, قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.

وحث النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة والمسارعة في عمل الخير قبل أن تتغير النفوس وتتقلب القلوب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا وَيُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)). أخرجه أحمد
 

ثم سباق إلى الجنات

{سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد].

إنها أسواق الحسنات وقمة الصالحات يهاجر المسلم إلى ربه تاركا دياره وأولاده وعشيرته لسان حاله يقول "إني ذاهب إلى ربي سيهدين"، وهناك يطوف كما طاف اسماعيل ويسعي كما سعت هاجر ويقبل كما قبل عمر ويقف بعرفة كما وقف محمد بن عبد الله ويضحي كما ضحي ابراهيم عليهم وعلي نبينا افضل الصلاة والسلام.

المؤمن في مواسم الطاعة يسمو فوق الماديات، ويعلو علي الشهوات، ينشط الذهن ويتألق، وتصفو الروح وتحلق، انه يزهد فيما عند الناس ويرغب فيما عند الله، انه يتخفف من أثقال الدنيا و جواذب الأرض، وينطلق صوب الآخرة في سعادة غامرة، لسان حاله يهتف: وافرحتاه غدا سألقي الأحبة محمدا وصحبه...!!، فيعمل لمعاده كما يعمل لمعاشه، ويعمل لغده كما يعمل ليومه، ويعمل لأخرته كما يعمل لدنياه {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148].

يعلمون أن متاع الدنيا مهما طال فإنه قصير، ومهما كثر فانه قليل... {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77]. يعرفون أن الآخرة هي الخالدة..هي الباقية {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16-17].. لذلك يتحركون في الأرض بهذا الفهم، ويعيشون في الدنيا بهذا الفقه، تبقي الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، فيجعلونها مزرعة لآخرتهم، ومرضاة لربهم لقد وعي الصحابة ذلك جيدا فلم يعملوا من اجل مصلحة شخصية ولا منفعة مادية، ولا شهوة حسية، وإنما يعملون، من اجل إعمار الحياة، حبا لذات الله، وإتباعا لرسول الله {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31]

اللهم ارزقنا حجا مبروا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا ...

أضف تعليقك