• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

 

برزت بخصوص ظاهرة الاقتباس, والنقل عن الغير ( خاصة الغرب ) ثلاثة اتجاهات رئيسية :

الأول : الانبهار الشديد بمنتجات الحضارة الأوربية, ومن ثم النقل المباشر عنها دون تمييز .

الثانى : الرفض الكامل لهذه الحضارة, وعدم الاستفادة بأى شئ من منتجاتها .

الثالث : الاقتباس والنقل عنها, وعن غيرها, بوعى وتبصر, ودون خضوع, ولا تبعية لها, ولا لغيرها .

بيد أن الاتجاه الأخير ـ الذى يرى الاقتباس عن الغير بوعى وتبصر ـ يكسب أنصاراً جدداً كل يوم؛ فهو اتجاه وسط بين الرفض المطلق, والنقل الكامل دون تمييز, كما أن بعض التجارب العملية لبعض الدول التى أخذت بأحد الاتجاهين الآخرين ـ كتجربة الدولة العثمانية التى بدأت فى أواخر القرن الثامن عشر ـ أثبتت فشلها, ولم تحقق ما كانت تصبو إليه .

غير أن هذا الاقتباس من الغير ـ لكى ينتج المطلوب منه ـ لابد أن تتوافر فيه عدة ضوابط, نذكرها باختصار :

1ـ الاقتباس من ثقافات متعددة, وحضارات مختلفة ؛ فكل ثقافة تتضمن المفيد, وغير المفيد, فضلاً عن أن الاقتباس من ثقافة واحدة يؤدى إلى التأثر الشديد بهذه الثقافة, مما يؤثر على الذاتية الخاصة للأمة .

2ـ أن يكون الاقتباس بوعى وتبصر؛ فلا يتم النقل إلا فيما تحتاجه الأمة فقط, وفيما لا يتعارض مع قيمها, ومبادئها, وثوابتها, وأعرافها العامة .

3ـ أن يكون الاقتباس بداية وليس نهاية, فهو المرحلة الأولى للبناء والتطوير, وهو مفتاح الإبداع؛ ولذلك يجب أن تتلوه الخطوة التالية .

4 ـ أن يتم صهر ما تم اقتباسه فى بوتقة ثقافة الأمة, ليتحول إلى جزء من ثقافتها, وطبيعتها, لا أن يظل جسماً غريباً عن ثقافة الأمة, وشخصيتها, فلا يؤدى دوره المطلوب, أو يؤثر هو فى هذه الثقافة, والشخصية المتميزة ، ولذلك فإنه ينبغى أن تتاح فرصة الحذف, والإضافة, والتحوير فيما تم اقتباسه, حتى يكون جزءاً من وجود الأمة المعنوى, وكيانها الثقافى, ويفقد جنسيته الأولى .

ومن الناحية الشرعية : فإن الاقتباس يختلف حكمه من الوجوب, إلى الجواز والمشروعية, إلى الحرمة حسب المواد التى تقتبس, ومدى تأثيرها على عقيدة الأمة, وثوابتها؛ فلا حكم للوسائل إلا باعتبار مقاصدها, على أن القاعدة فى هذا الشأن : أن يتم الاقتباس فيما لا يتنافى, أو فيما يتفق مع عقيدة الأمة, وثوابتها, وفيما تحتاجه بالفعل, وأن يقوم بالاقتباس مختصون, مخلصون لدينهم, وأن يتم التأصيل لما يقتبس على ضوء الأصول العامة, والقواعد الكلية مع التطبيقات العملية على امتداد تاريخ الأمة الإسلامية .

ويقول الأستاذ المرحوم : محمد الغزالى فى هذا الخصوص : ( لا حرج على المسلمين لو ساحوا فى أرجاء الأرض ... وراقبوا أحوال الشعوب والحكومات, ثم انتقوا مما يرون الأساليب الإدارية, والنظم الحضارية التى تخدم مثلهم, تحقق أهدافهم, وأرى أن ذلك أوجب بعدما تعفنت الأوضاع السياسية والاقتصادية لدينا فى عصور الجمود والتخلف) .

وقد التزم الغرب نفسه بالضوابط السابقة حين بدأ ينقل عن الفكر والحضارة الإسلامية فى عصوره الوسطى؛ فالغرب الذى قامت نهضته على أساس الثقافة والفلسفة اليونانية, والحضارة الرومانية, حافظ على هذه الأصول التى قامت عليها حضارته حين أخذ فى الاقتباس عن الفكر الإسلامى؛ فلم ينقل منه إلا ما يتوافق مع هذه الأصول, فنقل العلم وأساليبه, ولكنه لم ينقل روح الثقافة الإسلامية .

وظهر هذا الاتجاه فى النقل فى مختلف المجالات العلمية والتقنية والفلسفية؛ فقد اقتبس الغرب ـ مثلاً ـ كثيراً من فلسفة ابن رشد, لكن فلاسفته نقلوا عن ابن رشد الجانب الأرسطى الإغريقى, وأهملوا ما هو وليد الحضارة الإسلامية .

أى أن الغرب استفاد من الفكر والحضارة الإسلامية, ثم صاغه فى قوالبه الأصلية المستمدة من اليونان والرومان؛ فنقل الغرب عصارة الفكر الإسلامى القائم على المنهج التجريبى, ولم ينقل؛ بل رفض أن يأخذ لإطار الإسلام القائم على التوحيد والأخلاق . وبذلك لم ينفصل الغرب ـ حين بدأ نهضته ـ عن ماضيه, ولم يهمل تراثه القديم؛ بل استعاده, وارتبط به ارتباطاً بلغ حد التعصب, وذلك حين جعل الفكر الحديث كله ـ فى نظره ـ يرتبط بالفكر اليونانى والرومانى, رغم أن ما بين أفلاطون وديكارت ـ مثلاً ـ يبلغ ألف عام (430 ق.م ـ 1650م). وقد كان من نتائج ذلك أن معظم مفكرى الغرب لا يرون فى العالم سوى الثقافة اليونانية, والحضارة الرومانية, ويهملون نتاج وتاريخ باقى الشعوب, ويكاد يدور تاريخ العالم, وحركته الفكرية والثقافية والسياسية, بتطور العالم الغربى, أو الأوربى, خاصة فى هذه المجالات .

وحين نقلب كتاباً من أشهر الكتب عند الأوربيين, وهو : روح الشرائع, لمونتسكيو, نجد غالب استشهاده بأقوال اليونانيين, والرومان, وأفعالهم . انظر ـ مثلاَ ـ صفحات ( 21, 22, 23, 76, 79, 89, 115, 116, 227) من الجزء الأول, حيث يتضح أن مونتسكيو كان يكتب وفى ذهنه تجارب اليونانيين والرومان القدماء بصفة خاصة؛ فهو كثير الاستشهاد بأقوالهم ـ خاصة فلاسفتهم ـ وأفعالهم, وأحوالهم, وسياستهم, ولا يذكر الشرق إلا نادراً, وعلى سبيل الذم غالباً . ( انظر ـ مثلاً ـ ص 34 من الجزء الأول) ولما تكلم مونتسكيو عن مبدأ الفصل بين السلطات, وأراد أن يختبر وجود هذا المبدأ, لم ينظر إلا إلى الإغريق والرومان بصفة خاصة . ( انظر : من ص 245 : ص 269 من الجزء الأول ، ترجمة : عادل زعيتر ، القاهرة 1953م ) وهذه عناوين الفصول التى تحدث فيها عن وجود هذا المبدأ عند الرومان : الفصل الثانى عشر ( من الباب الحادى عشر) : ( حكومة ملوك رومة, وكيف وُزعت السلطات الثلاث فيها ) . الفصل الثالث عشر : ( تأملات خاصة حول حال رومة بعد طرد الملوك ) . الفصل الرابع عشر : ( كيف أخذ توزيع السلطات يتحول بعد طرد الملوك) . الخامس عشر : ( كيف خسرت رومة حريتها بغتة فى دولة الجمهورية المزدهرة) . الفصل السادس عشر : ( السلطة الاشتراعية فى الجمهورية الرومانية) . الفصل السابع عشر : ( السلطة التنفيذية فى الجمهورية نفسها) . الفصل الثامن عشر : ( سلطة القضاء فى حكومة رومة) . كما كان كبار مثقفى أوربا ينشأون على الثقافة اليونانية والورمانية القديمة, فهذا ـ مثلاً ـ جون ستيوارت مل, من أكبر فلاسفة الإنجليز وأوربا : ( ولد عام 1806, وراضه أبوه ـ ستوارت مل ـ أكبر مريدى بنتام منذ الفطام على المعرفة الشاقة؛ فدرس اليونانية وهو ابن ثلاث, وقرأ (هيرودوت) وبعض محاورات أفلاطون, ومؤلفات ( اكسينوفون) و( لوسيان) وهو ابن ثمان, ومن الثامنة إلى الحادية عشرة ألمّ بكل آثار الفكر اليونانى, وفى الحادية عشرة قرأ كتاب الخطابة لأرسطو) . انظر ترجمته فى : مقدمة كتاب الحرية, لجون ستوارت مل, ترجمة : د : حسين فوزى النجار, الهيئة المصرية العامة للكتاب, مكتبة الأسرة, سنة 1995م, ص 28. ويؤكد المترجم ما نقوله, فيقول فى تلخيصه لكتاب ( مل) السابق : ( .. ويمضى ـ أى مل ـ فى شرح مفهوم الحرية عند الأمم القديمة, لا سيما اليونان, والرومان, والإنجليز, ولعله حين خصهم بذلك فلأن الفكر اليونانى, والرومانى يمثلان المنابع الأصلية للفكر الأوربى الحديث, أما الإنجليز فلأنه ينتسب إليهم, ويكتب لهم ). وأخذ الغرب منذ القرن الثامن عشر, بمساعدة علمائه ومفكريه فى محاولة فرض نظرية على العالم كله مؤداها : أن الحضارة واحدة : هى التى صنعها الغرب, وعلى كل راغب فى التقدم ان يتبنى هذه الحضارة, وتلك الثقافة؛ وإلا فهو بدائى وحشى؛ فلم يعد هناك ـ مع هذه النظرية ـ إلا اختياران : إما أن تبقى بدائياً, أو متحضراً غربياً . وسبب ذلك أن الغرب ينظر باستعلاء للحضارات الأخرى؛ مما جعلهم لا يقيِّمون تلك الحضارات تقويماً موضوعياً؛ بل جعلوا الحضارة الغربية أساساً لمحاكمة الحضارات وقيامها؛ فغالبية الأوربيين يعتقدون أن تفوقهم العنصرى على سائر البشر أمر واقع, وقد ورثوا هذه النظرة عن اليونانيين والرومانيين الذين نظروا إلى كل الأجناس ـ ما عداهم ـ خاصة الذين كانوا يعيشون فى شرق البحر المتوسط, على أنهم غير متمدينين؛ بل أطلقوا عليهم لقب ( البرابرة ).

ويظهر مما سبق أن الغرب بدأ نهضته فى جميع المجالات, ولم يفقد معها ذاتيته؛ بل عاد إلى أصوله الأولى, وهضمها مع فكره الجديد, لينتج عن ذلك النهضة الأوربية الحديثة . ولكن الشرق حين بدأ يفكر فى الأخذ بأسباب النهضة لم يلتزم بهذه الضوابط التى ذكرناها؛ بل أهملها إهمالاً يكاد يكون كلياً؛ فلم يتم الانفتاح على كل الثقافات والحضارات الأخرى؛ وإنما وقع تحت تأثير الفكر الغربى؛ فالحضارة العالمية بالنسبة للفكر المصرى ـ مثلاً ـ لا تتعدى حدود العالم الغربى إلا نادراً؛ بل أحياناً لا تتعدى ثقافة دولة أو دولتين . وتم نقل منتجات الحضارة الغربية دون وعى, ولا تبصر, وتم تكديس هذه المنتجات دون إدراك ـ كما قال المفكر الجزائرى مالك بن نبى ـ ( أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا يأتى بحضارة, فالحضارة هى التى تكون منتجاتها, وليست المنتجات هى التى تكون الحضارة ), كما نقلت هذه المنتجات على أنها أفكار وليست فكراً, أو نقلت الأفكار دون إدراك للفكر الذى وراءها, مما يؤدى لعدم معرفة الآثار التى يمكن أن تنتج عن هذه الأفكار, كما يختفى الموقف النقدى حيال هذه الأفكار,بحيث لا يمكن معرفة الجوهرى منها وغير الجوهرى, فيتم تقبلها على أساس أن الغرب لا يأتى من عنده إلا الخير .

ورغم أن الحضارة الأوربية قامت على أسس مادية ـ كما سنوضح فيما بعد ـ وهو ما يتنافى مع أسس الحضارة الإسلامية التى تسود مصر والشرق ـ فقد تم النقل عن هذه الحضارة مع إغفال هذا الأساس, وتم اقتباس الحضارة الغربية اقتباس التقليد لا اقتباس التحقيق كما يقول الرافعى, فلم يتم التعديل فيما تم اقتباسه, ولا التحوير فيه, ولا المزج بينه وبين الثقافة الوطنية, بحيث لا يؤثر على ذاتية هذه الثقافة, مما أدى إلى غياب معالم الثقافة الوطنية, وإلى بروز الثقافة والفكر الأوربى ـ مكانها ـ بقيمه ومبادئه . فكان الاقتباس بذلك هو النهاية وليس البداية؛ فقد تم نقل منتجات الحضارة الأوربية, وانتهى الأمر,على أساس أن هذا النقل كفيل وحده بأن يؤدى لحدوث النهضة دون تدخل فيه, ولا تهذيب أو تمحيص له .

كما تم هذا الاقتباس دون تمييز بين العلوم الطبيعية, والعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ فإن كانت العلوم الطبيعية وظواهرها, والمادة وخصائصها, هى من قبيل الفكر المشترك الذى يتميز بالحياد العلمى؛ فإن الأمر مختلف فى مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية التى تختلف فيها الحضارات اختلافاً بيناً من حيث الأسس التى تقوم عليها, والأهداف والغايات التى تنشدها كل حضارة, فهذه العلوم ليست نتاجاً عالمياً.. ربما توجد فى المناهج والتفصيلات بعض الأمور المشتركة, ولكن يبقى أن الأساس مختلف . ولذا فإنه ينبغى الحذر ـ دائماً ـ عند الاقتباس من هذه العلوم, الذى يجب أن يكون بحرص شديد, وأن يدخل ـ ما تم اقتباسه ـ تحت مظلة الأهداف, والغايات الكبرى للأمة .

 

أضف تعليقك