• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

إنه عملاق الفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي، الذي ظهر فى شبه القارة الهندية بالتزامن مع الإمام "البنا" في مصر، وعلى الرغم من عدم اللقيا بينهما إلا أن أفكارهما تلاقت فى شمولية الإسلام!!

كان من أصحاب العزائم، والهمم العالية فى العمل للإسلام، وهو فى سن الشباب، فقد ذهب إلى المسجد يوما لأداء صلاة الجمعة، فسمع الخطيب يقول: إن هذه الأمة تحتاج لمن يجدد لها شبابها، فنظرت يَمنة ويَسرة فخِلْتُ أن الخطيب يعنيني، كما قال الشاعر:

إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنني :: عُنِيتُ فلم أكسل ولم أتبلد

فعاد إلى بيته بعد الصلاة وكتب خمسمائة رسالة، وبعث بها إلى علماء الهند، فلم يستجب له إلا واحد فقط، وعندما التقاه قال له وما عساك أن تصنع فى واقع الأمة المرير؟ ولكن المودودي أصر أن يعمل شيئا لإنقاذ الأمة، فبدأ السعي الدؤوب لهذا العمل وأعد له العدة، حتى عندما سئل: وما عُدّتك لذلك؟ فأجاب: أعددتُ للمعوقات دِينا، وللشدة يقينا، وللظلم صبرا، وللسجون والمعتقلات قرآنا وذكرا، وللمشانق: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.

وقد حدث التقاء روحي وفكري بين المودودي والشهيد "سيد قطب"، فعندما قرأ كتاب "معالم في الطريق"، قال: إنّ ما ورد في هذا الكتاب هو نفس ما أراه، بل كأني أنا الذي ألّفتُه، فقد عبر عن أفكاري بدقة.. ولا عجب؛ فمصدر أفكاره وأفكاري واحد، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم!! كما تأثر الشهيد "سيد قطب" بكتابات المودودي، خاصة كتاب (المصطلحات الأربعة)، وكان يسمِّي المودودي "المسلم العظيم".

يقول الأستاذ "عمر التلمساني" -في المقارنة بين الإمامين "البنا" و"المودودي"-: إنهما بحق إماما الجيل الظاهران المنفردان.. وإنهما استمدا كل معلوماتهما ومناهجهما وأساليبهما ووسائلهما في الدعوة إلى الله من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، دون أخذ من هذا الفيلسوف أو استمداد من ذلك الكاتب، فجاءت مدرستهما بعيدة كل البعد عما قد يعيب الدعوة الإسلامية بأي فهم أو تفكير لا صلة له بالإسلام.

والناظر إلى ما لاقاه البنا من عنت وتهجم وإيذاء يرى الشيء نفسه بالنسبة للإمام المودودي.. وكأنهما على ميعاد.

ويكفى المودودي فخراً، أنه هو أول من فند مزاعم غاندي بأن الإسلام انتشر بحد السيف، فى كتابه (الجهاد فى الإسلام)!!

وأسس المودودي حزب الرابطة الإسلامية سنة (1937م)، والذي دعا إلى الاستقلال الذاتي للولايات ذات الأغلبية الإسلامية، كما أسس "الجماعة الإسلامية" في لاهور، وتم انتخابه أميرًا لها في 26 من أغسطس 1941م.

وبعد قيام دولة باكستان في 28 من أغسطس 1947م، انتقل المودودي إلى لاهور؛ وأسس الجماعة الإسلامية، وفي يناير 1948م طالب بتشكيل النظام الباكستاني طبقًا للقانون الإسلامي.

اعتقل المودودي في 4 من أكتوبر 1948م، وعدد من قادة الجماعة الإسلامية، ولكن ذلك لم يصرفه عن المطالبة بتطبيق النظام الإسلامي، وأظهر الشعب تعاونه الكامل مع "الجماعة" في مطالبها، فاضطرت الحكومة إلى الموافقة على قرار يحدد الوجهة الإسلامية الصحيحة لباكستان في 12 من مارس 1949م.

أعيد اعتقال المودودي مرة أخرى مع اثنين من زملائه ثم أطلق صراحه، ثم أعيد اعتقاله، وحكم عليه بالإعدام بعد أربعة أيام من اعتقاله، ما أدى إلى حدوث ثورة من الغضب الشديد في معظم أنحاء العالم الإسلامي، حتى اضطرت الحكومة إلى تخفيف حكم الإعدام، والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ثم العفو عن المودودي في 1955م. ومع بداية عام 1956 قامت الحكومة بإصدار دستور إسلامي للبلاد، ثم ألغته في 1963م.

وعندما قامت الحرب بين باكستان والهند في 1965م كان للمودودي والجماعة الإسلامية دور بارز في الشحذ المعنوي للجماهير ومساعدة مهجَّري الحرب، حيث أقامت نحو عشرين مركزًا للإمداد الطبي في آزار كشمير!!

وفي عام 1979م فاز المودودي بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، فكان أول من حصل على تلك الجائزة تقديرًا لجهوده المخلصة في مجال خدمة الإسلام والمسلمين!!

حرص المودودي على إظهار أن النظام الإسلامي ليس نظاما ثيوقراطيا، أو يدعو لإقامة دولة دينية بالمفهوم الغربيّ، حيث يقول: الأمير الإسلامي ليس له فضل على جمهور المسلمين في القانون، وإنما هو رجل من الرجال، يوجَّه إليه النقد فيما يتراءى للعامة من الأخطاء في سياسته الناس والزلات في حياته الذاتية، فهو يُعزل إذا شاءت الأمة ـ وترفع عليه القضايا في المحاكم، ولا يستحق أن يعامل فيها معاملة يمتاز بها عن غيره من المسلمين!!

كما حرص أيضا على بيان المعنى الصحيح للسلام فى الإسلام، وأنه ليس معناه الركون والكسل والدعة قائلا: كل من يرى أن معنى السلام أن يتمتع المسلمون بأكبر قسط ممكن من المنافع والامتيازات ويسيَّروا جملة شؤونهم بكامل طمأنينة في ظل النظم الشيطانية دون أن تصيبهم مصيبة في نفوسهم أو أموالهم, فإنه لا يفهم مغزى الإسلام وحقيقته ودعوته، وأنّ إعلاء كلمة الله والدعوة إلى القيام بها تحتاج إلى رجال ذوي صلاح, يتقون الله في السر والعلن, ممن لا يلهيهم عن العمل بالشريعة والاستمساك بعروتها شيء من مطامع الدنيا، ولا تَصْرفهم عن ذلك العقبات والشدائد.

وبين المودودي معنى العبودية لله، وأنها ليست عبودية فردية ولكنها عبودية مجتمعية لله وحده، فيقول: ليس هناك أسخف لدى العقول من أنْ يدعي كل إنسان بمفرده أنه عبد الله وخادم له ومتبع لدينه, حتى إذا ما اجتمع مع غيره من الأفراد وكونوا مجتمعاً وشكلوا دولة تنكروا لعبوديتهم لله واستبعدوا دينه من حياتهم, إذ ليس من المعقول أن يذعن كل جزء من أجزاء المجموع على حدة بالعبودية لله, فإذا تكونت من الأجزاء كلها وحدة مجتمعة أصبحت خارجة عن هذه العبودية, ولا يقول بهذا إلا من أصيب بالجنون.

ويؤكد رحمه الله على ضرورة القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى على المنكر، كي لا تغرق سفينة المجتمع قائلا: إن انحراف أي شعب يبدأ بانحراف بعض أفراده، فإن كان ضمير الشعب الاجتماعي واعياً يقظاً قهر الرأيُ العام فيه هذه الشرذمة المنحرفة, ونجا الشعب جميعُه من مهالك الانحراف والبوار، أما إن تساهل الناس وتهاونوا في أمر المخطئين, ولم يضربوا على أيديهم, وأعطوهم الحرية ليمارسوا أخطاءهم في كيان المجتمع, فإن نطاق الفساد ـ الذي كان مقصوراً على دائرة محدودة تضم أفرادا قلائل ـ يتسع بالتدريج ليعم المجتمع بأسره, وينتشر في دمه وعروقه, وهذا هو ما كان سبباً في انفراط عقد بني إسرائيل!!

وبين رحمه الله الأثر السيئ للغزو الفكري بقوله: إن المستعمرين الغربيين لو سلبوا أموالنا سلبًا, ونهبوا ثرواتنا المادية نهباً, وقتلونا تقتيلاً, وأبادوا أولادنا عن بكرة أبيهم, ودمروا بيوتنا تدميراً, لما كان هذا الظلم أشنع نوعاً وأشد قسوة وأفدح نتيجة من الظلم الذي اقترفوه نحونا ببث سموم حضارتهم.

وكانت فكرة "الحاكمية" واضحة جلية عند المودودي رحمه الله حيث يقول: فليس لأحد من بني آدم أن يُنصب نفسه ملكاً على الناس ومسيطراً عليهم، يأمرهم بما يشاء، وينهاهم عما يريد، ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى هو تكبُّر في أرض الله بغير حق، وعتوّ عن أمره، وطموح إلى مقام الألوهية، والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكاً وأمراء، إنما يشركونهم بالله، وذلك مبعث الفساد في الأرض، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان.

والسلطة العليا المطلقة ليست إلا لله سبحانه وتعالى، فالأرض أرض الله، وكل ما نعيش عليه من ماء وهواء وضوء وما إلى ذلك هو ملك لله سبحانه وتعالى، ولا يحق لنا ابتداء أن ندعي لأنفسنا السلطة المطلقة، أو نعترف بها لأحد يدعيها من دون الله، سواء أكان ذلك المدعي شخصا أو حزبا أو فئة أو مؤسسة.

ظل أبو الأعلى المودودي وفيًّا لدعوته، مضحيا في سبيلها، ثابتا على مبادئها، ابتغاء مرضاة الله، حتى انتقل إلى جوار ربٍّ كريم،  وصعدت روحُه إلى بارئها في 22 من سبتمبر 1979م.

رحمه الله رحمة واسعة.

أضف تعليقك