• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

يا لها من آية عظيمة-ككل آي القران- تلخص حال فرعون مصر مع جزء من شعبها،"فاستخف قومه فأطاعوه"، لقد استهان بهم وبعقولهم، وساق لهم الوهم بعد الوهم فصدقوه، وأنكروا على من أراد نصحهم وإنقاذهم، وظلوا على حالهم مصدقين له منقادين لأوامره حتى فاجأهم الغرق. يلزم التنبيه إلى أن الآية لم تكن تقصد كل الشعب المصري وقت نزولها ولا هي كذلك اليوم، ففي تفسير الطبري للآية (يقول تعالى ذكره: فاستخفّ فرعون خلقا من قومه من القبط، بقوله الذي أخبر الله تبارك وتعالى عنه أنه قال لهم، فقبلوا ذلك منه فأطاعوه، وكذّبوا موسى، قال الله: وإنما أطاعوا فاستجابوا لما دعاهم إليه عدوّ الله من تصديقه، وتكذيب موسى، لأنهم كانوا قوما عن طاعة الله خارجين بخذلانه إياهم، وطبعه على قلوبهم).

لم يتغير الحال في سياسة الفراعنة قدمائهم ومعاصريهم لشعب مصر، فمبدأ الاستخفاف بالشعب  مستمر رغم تغير الحكام، والنتيجة واحدة رعم تغير الأزمنة، وهي انتقام إلهي ممن قبل الاستخفاف وأطاع أمر فرعون وأعرض عن النصح.

في تطوافه حول الآية يقول الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن: (واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودون يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!).

ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول:

{ فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين } . .

ثم انتهت مرحلة الابتداء والإنذار والتبصير؛ وعلم الله أن القوم لا يؤمنون؛ وعمت الفتنة فأطاعت الجماهير فرعون الطاغية المتباهي في خيلاء، وعشت عن الآيات البينات والنور؛ فحقت كلمة الله وتحقق النذير:
{ فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين}. 

مرة أخرى لم يكن المقصود كل الشعب لا في الماضي ولا في الحاضر، لكنها فقط الفئة التي قبلت بالاستخفاف وتجاوبت معه، وهي فئة لا تزال موجودة في مجتمعنا المصري الحالي، غنت ورقصت للسيسي حين اغتصب السلطة من الرئيس المنتخب، وغنت ورقصت حين دعاهم السيسي لتفويضه بالقتل، وغنت ورقصت حين وقع القتل والحرق بأشقائهم المصريين، وغنت ورقصت حين باع لهم السيسي الأوهام مثل تفريعة قناة السويس، وتسابقوا على البنوك لشراء صكوك القناة، وغنوا ورقصوا حين باع أجزاء من أرض مصر، وها هي نتيجة هذا الاستخفاف تظهر دون أن يستطيع (الخِفاف) أن يفعلوا شيئا.

نجح السيسي وعصابته في زراعة الخوف في نفوس الكثيرين على مدى أكثر من 3 سنوات، بعد أن تحررت تلك النفوس لبعض الوقت عقب ثورة يناير، ونجحت عملية التخويف في إخصاء الكثيرين فعلا حتى أنهم لم يهبوا للدفاع عن لقمة عيشهم، وهم الذين حفظوا وتناقلوا الأمثال جيلا بعد جيل (يا واكل قوتي يا ناوي على موتي) أي يا من تأكل قوتي أنت تنوي قتلي، (عض قلبي ولا تعض رغيفي). وها هو السيسي يتخذ قرارات لم يجرؤ أي من حكام مصر السابقين على اتخاذها؛ لأنهم كانوا يخشون غضبة الشعب، أما السيسي فلم تكن لديه هذه الخشية، ليس لقناعة بحب الشعب ولكن لإيمان بنجاح خطته في استخفاف الشعب واستغفاله، وإخافته، وإقناعه بأن يحمد الله أنه لا يزال على قيد الحياة!!

لا يمكن أن يقدم السيسي على كل تلك الإجراءات المؤلمة بل القاتلة للكثيرين دون أن يكون لديه تقديرات موقف، تؤكد أن إجراءاته ستمر سواء بصمت شعبي أو بقهر بوليسي وعسكري، لقد عمد السيسي إلى نشر شرطته في جميع الأماكن التي توقع فيها ردودا شعبية،كما أنه نشر طلائع من الجيش في بعض الأماكن في رسالة لتأكيد جديته في نشر الجيش كاملا في ربوع مصر لمواجهة أي غضب شعبي، وإلى جانب ذلك لجأ مجددا إلى الاستخفاف بالشعب طالبا منه الصبر قليلا، ومحذرا إياه من فوضى لا تبقي ولا تذر إذا خرجت أي مظاهرات شعبية، ولتثبيت هذه الفكرة في عقول (الخفاف) اصطنع تفجيرات هنا وهناك وقد يزيد منها تباعا لتصدير الخوف للشعب، بأن هذه هي طلائع الفوضى التي تنتظرهم إن لم يقبلوا إجراءاته.

لقد رفض الرئيس المدني محمد مرسي تنفيذ شروط صندوق النقد الخاصة بتعويم الجنيه وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية لإدراكه لصعوبتها على الشعب الغلبان، وحتى لو قال البعض إنه رفض تنفيذ تلك الشروط خوفا من غضب الشعب، فهذا يحمد له أن يقدر غضبة شعبه ويتجنبها لأنه جاء بإرادة هذا الشعب، وحتى المخلوع مبارك الذي ثرنا ضده وخلعناه لم يجرؤ على تنفيذ تلك الشروط القاتلة، ومهما كان السبب الذي دفعه لذلك، فالنتيجة أن التعويم لم يتم وأن الدعم لم ينقطع، أما السيسي فقد (استخف قومه ) فعلا، وتأكد من نتيجة هذا الاستخفاف فلم يأبه برأي القوم ولا بألمهم ولا غضبهم، ولم يحنُ عليهم كما وعدهم، بل مال عليهم ميلة واحدة في ليلة واحدة .

يخطئ السيسي وعصابته حين يظنون أنهم نجحوا في استخفاف وتطويع الشعب كله، فالأحرار لا ولم يخضعوا أو ينخدعوا، وهم لا يزالون صامدون في حراكهم ضده منذ اليوم الأول لاستيلائه على السلطة، وهناك الكثيرون الذين أفاقوا من أوهامه، وأظهروا ندمهم على تأييده، وقبول استخفافه، وهم الآن خميرة ثورة حقيقية تقتلع جذور الفساد والاستبداد، ويبقى أن على القيادات السياسية الثورية الواعية التوحد والتحرك لتنظيم هذا الغضب الشعبي، وتوجيهه في المسار الصحيح لينتج أثره في إنهاء حكم العسكر، وإعادة الحكم للشعب، وإنقاذ الوطن مما أوقعه فيه الجنرالات الفاشلون.

أضف تعليقك