عندما تقرأ التقارير الأمنية، أو الصحافية التي هي في الأصل أمنية، الخاصة بالإعلامي محمود حسين في قناة «الجزيرة»، سوف تصاب بدوار البحر، ليس فقط لتناقضها ولكن لحجم الاتهامات الموجهة للفتى، والتي تجعل المتابع يقف على أنه «خُط الصعيد» و«السفاح» معاً، وليس مجرماً عادياً.
كل من «خُط الصعيد»، و«السفاح كرموز»، لم يكونا شقيين بالفطرة، فشقاوتهما بدأت بالقتل، فأصابتهما لعنته، ومن أراد أن يرى هذه اللعنة وقد تمثلت بشراً فلينظر إلى عبد الفتاح السيسي والفشل الذي يحيط به من كل جانب. وإن كانت قصص «الخُط»، و«السفاح كرموز»، تناقلتها الأجيال لأنهما نجحا في إرباك أجهزة الأمن وإثارة الذعر، والأول كانت بداية نشاطه في الفترة ما بين 1914-1947، وبعد أن ارتكب جريمة القتل هرب للجبال فتحول إلى زعيم للمطاريد حتى تمت تصفيته على يد قوات الأمن. أما الثاني فقد ظهر نشاطه في الفترة من 1948 إلى 1953، فمارس نشاطه في عهدين: العهد الملكي وعهد الضباط الأحرار.
الأول من الصعيد ومارس نشاطه في مسقط رأسه، والثاني من الصعيد أيضاً وإن كان قد مارس نشاطه في الإسكندرية وانطلق من منطقة كرموز. الأول مسلم والثاني مسيحي، «وحدة وطنية واحدة». و«خط الصعيد» هو الأشهر، وكلما ظهر شقي في الصعيد أطلق عليه إعلامياً «الخُط»، وهناك ثالث وهو «السفاح» أمين سليمان الذي لا يُذكر إلا في باب أخطاء إخراج الصحف، أو للسخرية من استبداد الضباط!
فقد نشرت جريدة «الأخبار» أعلى صفحتها الأولى وبعرض الصفحة هذا العنوان: «مصرع السفاح»، والعنوان التالي: «جمال عبد الناصر في باكستان»، فبدا الأمر كما لو أن جمال عبد الناصر هو «السفاح» وقد لقي حتفه في باكستان. واعتبر حكم العسكر أن الإيحاء مقصود، واستخدمت هذه الواقعة في فرض الرقابة على الصحف، وكانت من ضمن الوقائع التي استخدمت لتبرير تأميم الصحافة في سنة 1960، وسيطرة السلطة عليها قوة واقتداراً، وانتزاعها من أصحابها بالقانون، والتي سميت بعد هذا الإجراء «الصحافة القومية»!
ومهما يكن، فقد كانت التقارير المنشورة، عن حالة زميلنا «محمود حسين»، تؤكد أنه من «المطاريد»، فهل فعلاً هو هذا الإنسان الودود، الذي يبدو لمن لا يعرفه عبوساً قمطريرا حتى إذا اقتربت منه اكتشفت أنه أكثر من إنسان؟!
مشكلة «الجزيرة»
لقد تم اعتقال محمود حسين خمس عشرة ساعة في مطار القاهرة، ومنذ أن استقر في الدوحة بعد غلق مكتب «الجزيرة» ووقوع الانقلاب، لم يتوقف عن زيارة مصر، التي غادرها بعد مجزرتي «رابعة» و»النهضة»، ومن المطار، وكذلك معظم من عملوا في مكتب القاهرة، فلم يعتقدوا أنهم مستهدفون بأشخاصهم، فالمستهدف هو قناة «الجزيرة»، التي وقفت مع الثورة، وانحازت للثوار، وأفشلت لنظام مبارك وعبد الفتاح السيسي أحد أدواته، خطة فض ميدان التحرير في يوم موقعة الجمل، فـ»الجزيرة» استمرت في البث المباشر من هناك، فشاهد العالم كله الجريمة بالصوت والصورة، ثم كان بيان الدكتور يوسف القرضاوي، وإعلانه أن الذهاب للميدان فرض عين على القادر، فجاءت الحشود سيراً على الأقدام في فترة حظر التجول من كل فج عميق.
وقد أغلق مكتب القناة في القاهرة، فقد اعتبر محمود حسين ورفاقه أن الثورة المضادة انتصرت لنفسها، ومن حقه بالتالي أن يزور مصر، كأي مصري يعمل في الخارج، ولم يكن يعلم ما تخبئه له الأيام هذه المرة!
فبعد سحب جواز سفره، والسماح له بدخول بلده بدونه، جرى اعتقاله بعد أربعة أيام، واعتقال اثنين من أشقائه (أحدهما يؤيد صراحة العهد الجديد) وبدون إعلان من قبل أجهزة الأمن، فقد أعلنت قناة «الجزيرة» خبر الاعتقال في اليوم التالي، وبدا أن وزارة الداخلية في «حيص بيص»، فهل كانت في مهمة الضغط على «محمود»، ولم يستسلم لها بعد، أم في مرحلة طبخ قضية لهذا المجرم التعويل، فلأول مرة تبدو وزارة الداخلية مهتمة بقضية، وهي منذ الانقلاب تكتفي بتقديم المقبوض عليهم من الصحافيين بالذات للنيابة، حتى وإن كان القضايا لم تتم تسويتها بعد!
فزميلنا إبراهيم الدراوي، تم القبض عليه من داخل مدينة الإنتاج الإعلامي بعد أن استدرجه تامر أمين للعودة من الخارج والمشاركة في برنامجه على القناة السعودية إياها، وقد قدم للنيابة بتهمة سرقة شقة، فلما اعترف بفعلته في هدوء، ضحك المحقق وقال لقد عثرنا على الجاني، وفي اليوم التالي وجهوا له تهمة التخابر مع حماس بما يضر بالعلاقات المصرية – الإسرائيلية، فلم يكن الاتهام جاهزاً ومع ذلك قدم للنيابة باتهام بديل يبرر القبض عليه وهو سرقة شقة.
هل كانت قضية محمود حسين بتكليف من السيسي لوزارة الداخلية؟ أم أن جهاز الأمن الوطني (مباحث أمن الدولة سابقاً) تحرك في قضيته بدوافع العداء لهذه القناة ولكل من عمل فيها وهي التي ساهمت بتغطيتها في إنجاح ثورة يناير؟
عريضة الاتهام
لمواجهة فضح قناة «الجزيرة» لعملية اعتقال محمود حسين، تم الترويج لعريضة اتهام عبر الصحف، وكان فيه من التناقض ما فيه، فقد تراوحت الاتهامات بين كونه عضوا في تنظيم إرهابي، وكونه منتج الفيلم الوثائقي «العساكر»، الذي شنت الأذرع الإعلامية هجوماً عليه قبل عرضه، والقول إنه يسيء للجيش المصري. وهو ما نشره أحد المواقع الإلكترونية الموالية للانقلاب العسكري، قبل أن تشارك قناة «رويترز» في «المولد»، وبشكل يوحي بأن ملكيتها آلت لتوفيق عكاشة!
«رويترز»، قالت في وصفها صاحبنا بأنه من «عناصر قناة الجزيرة»، والصياغة هنا توحي بأن زميلنا محمود ليس إعلامياً، وأن «الجزيرة» ليست قناة تلفزيونية ولكنها تنظيم إرهابي، يوشك أن يعلن الأمن المصري عن «تنظيم العائدون من الجزيرة» على وزن المسميات الأمنية لتنظيمات في مرحلة التسعينات مثل «العائدون من ألبانيا» و«العائدون من أفغانستان»، والآن يوجد «تنظيم العائدون من ليبيا»، الذي ألقت أجهزة الأمن القبض عليه مؤخراً!
حسب «رويترز» فإن عنصر قناة «الجزيرة» تم القبض عليه تنفيذاً لأمر ضبط من النيابة لاتهامه بالانضمام لجماعة محظورة هدفها قلب نظام الحكم»، ولا نعرف إن كانت مصادر «رويترز» أمنية أم من النيابة، لأننا لا نعرف لماذا لم يتم عرض «العنصر» على النيابة مباشرة ما دام هناك قرار بالضبط والإحضار قد صدر، ومن المقطوع به أنه ظل أربعة أيام مختطفاً ومحتجزاً في مقر مباحث أمن الدولة في أكتوبر قبل نقله إلى مقر أمن الدولة في مدينة نصر، وعندما قيل إنه تم عرضه على نيابة أمن الدولة العليا التي قررت حبسه خمسة عشر يوماً «دفعة واحدة»، فإن النيابة لم تعلن هذا وإنما أعلنه بيان وزارة الداخلية وهناك من شككوا في عملية عرضه، فمحاميه لم يحضر معه التحقيقات وهو ما أوجبه القانون!
اتهام محمود حسين، بأن له صلة من قريب أو من بعيد بفيلم «العساكر» يساوي بالضبط الاتهام الذي روجت له «رويترز» بأنه عضو في جماعة محظورة هدفها قلب نظام الحكم، ولا تثريب على الأذرع الإعلامية للأجهزة الأمنية إن نشرت هذه الخزعبلات، لكن عندما يصدر بيان وزارة الداخلية ولا ذكر فيه لانخراط المتهم في الجماعة المحظورة والتي تهدف لقلب (بسلامته) نظام الحكم، وكأنه معدول، فإن الوكالة ينبغي أن تعتذر لقرائها وللمشتركين فيها عن هذه المساهمة الأمنية!
ما علينا، فما نُشر في المواقع المصرية كان نقلاً عن مصادر أمنية لا نعرف لماذا تتحرج دائماً عن الإعلان عن نفسها. وقد نشر أن المتهم دأب على فبركة فيديوهات عن الشارع المصري وإرسالها إلى «القناة المعادية» للدولة المصرية لتشويه صورة مصر داخلياً وخارجيا!
المقطوعة الموسيقية
وكشفت التحريات «الخلاقة كالعادة» ومعلومات الأجهزة الأمنية أن المتهم يعمل بالقناة منذ سنوات، وفي الآونة الأخيرة كان مكلفاً بجمع الفيديوهات من مصر وإرسالها للدوحة، وأنه يصطنع فيديوهات مفبركة عن الأوضاع الاقتصادية وغلاء الأسعار، مقابل حصوله على راتب شهري!
لا تغادر هذه المقطوعة الموسيقية من الاتهامات قبل أن تقول يا سبحان الله، فقد اكتشفنا أن صديقنا محمود حسين من «أهل الحظوة» وما أدرانا فربما كان وهو معنا في «مقهى الهنود» في الدوحة يضع الشيشة أمامه، يصلي بالناس إماماً في المسجد النبوي!
فهو يعمل في الدوحة ويفبرك الفيديوهات في القاهرة، ويرسل الفيديوهات التي فبركها بنفسه في القاهرة إلى نفسه في الدوحة، والدليل على فبركة هذه الفيديوهات أنها عن الأوضاع الاقتصادية، مع أن مصر تعيش حالة من الرخاء غير مسبوقة، كما أنها عن ارتفاع الأسعار، والأسعار في مصر في انخفاض مستمر. والغريب الذي كشفت عنه التحريات ومعلومات الأجهزة الأمنية رأساً أن المتهم لا يفعل كل هذا ابتغاء وجه الله، ولكن مقابل حصوله على راتب شهري. وقد صار الحصول على راتب شهري جريمة يعاقب عليها القانون المصري في عهد الانقلاب!
بيان وزارة الداخلية الذي صدر في وقت لاحق أضاف إلى ما نشر منسوباً للتحريات ومعلومات الأجهزة الأمنية، أن خُط الصعيد، و«السفاح» اتخذ من عدة مقرات إقامة له بمحافظة الجيزة وكرا لتنفيذ تكليفات قيادة قناة الجزيرة بإعداد التقارير الإعلامية و«المقالات» والأفلام الوثائقية المفبركة. ولا أعرف ما هي قصة «المقالات» المكررة في البيانات الرسمية وغير الرسمية، و»الجزيرة» محطة تلفزيونية وليست جريدة تنشر المقالات التي يفبركها «محمود حسين» في أوكاره المتعددة، وهو رغم كونه في الدوحة، فإن قيادة «الجزيرة» تصدر له التكليفات وهو في القاهرة، ليقوم بتنفيذها في أوكاره في القاهرة بينما هو يعيش في الدوحة!
أضف تعليقك