عندما يقلق النظام الانقلابي في مصر من مجرد ظهور الدكتور محمد البرادعي بـ «تغريدة» على صفحات التواصل الاجتماعي، يمكن فهم حجم القلق الذي يتملكه فيتسبب في فقدانه للاتزان، بمجرد الإعلان عن أنه سيكون ضيفاً على محطة تلفزيونية!
الحملة القومية لإبادة البرادعي من خلال الأذرع الإعلامية للسيسي، لم تأت رداً على ما جاء في الحلقة الأولى، لأنها بدأت في اللحظة ذاتها، التي كان فيها ضيفاً على «تلفزيون العربي» في لندن، والذي ذكرنا اسمه باسم التلفزيون المصري في بدايته، فهو «التلفزيون العربي»، والفيلم الذي يعرض على شاشته هو أيضاً «الفيلم العربي»، ولا أعرف متى تحول اسمه إلى «تلفزيون جمهورية مصر العربية»، فمن المؤكد أن هذا حدث في عهد السادات، فمصر كانت حتى رحيل عبد الناصر يطلق عليها «الجمهورية العربية المتحدة»، وآخر قانون وقعه ناصر قبل وفاته بساعات، كان قانون نقابة الصحافيين الحالي، ولا يزال النص فيه على أن من شروط العضوية، أن يكون المتقدم «من مواطني الجمهورية العربية المتحدة»!
وإن كنت لا أعرف إن كان إلغاء مسمى «التلفزيون العربي»، له صلة بالقطيعة العربية مع نظام السادات بعد زيارته للأرض المحتلة، أم كانت سابقة على ذلك؟!
قبل بث «التلفزيون العربي» للحلقة الأولى من مقابلته المطولة مع البرادعي، تم التنويه عن هذه الحلقات، على نحو أحدث قلقاً هائلاً في أوساط الانقلابين، فالبرادعي لا يزال مقلقاً للنظام العسكري في مصر ولو كان «عظما في قفة»، وحتى وإن قال «ريان يا فجل»، ولهذا بدأ الاستعداد بحملة الإبادة الإعلامية ضده، فما عرض على قناة «صدى البلد»، كان نتاج خطة، شاركت فيها الأجهزة الأمنية التي في حوزتها التسجيلات الهاتفية، ولا أستبعد أن يكون «رئيس تحرير» برنامج «أحمد موسى» في هذه الفترة هو «عبد الفتاح السيسي نفسه»، الذي تستغرقه التفاصيل، ولا يثق إلا في قدراته هو، لا سيما وأن إذاعة تسجيل لرئيس أركان الجيش المصري السابق، لا يمكن أن يتم إلا بقرار من السيسي!
حكاية البرادعي الأب
كانت الحلقة الأولى مع البرادعي كشاهد على العصر، ومن خلال علاقته بوالده نقيب محامين مصر الأسبق مصطفى البرادعي، ثم انتقل إلى شهادته المهمة على مرحلة كان فيها موظفاً في وزارة الخارجية، وهي شهادة تدين عصراً بأكمله، وتمثل إدانة لحكم العسكر، الذي بدأ في مصر في سنة 1952، فقد كان ضمن وفد الخارجية المصرية في الأمم المتحدة عندما اندلعت حرب يونيو/حزيران 1967، وقد رفض الوفد عرضاً أمريكيا بوقف إطلاق النار وجلاء إسرائيل عن الأرض التي احتلتها، لكن لم يكن الشعب المصري كله هو من وقع ضحية إعلام التعبئة، وفي المقدمة إذاعة «صوت العرب» ومذيعها الملهم أحمد سعيد، الذي كان يبشر المصريين والعرب بأن الجيش المصري في طريقه لاحتلال تل أبيب، فالسلطة نفسها صدقت هذه الدعاية، ولم يكن المذيع المذكور ينطق عن الهوى، ولكنه كان يقرأ بيانات القوات المسلحة الآتية من غرفة العمليات، فهل كذب القوم حتى صدقوا أنفسهم؟!
بعد يوم، وربما أكثر، تلقى الوفد المصري في الأمم المتحدة، رسالة من وزير الخارجية يطلب منه القبول بالعرض الأمريكي، على نحو شكك الوفد من أن يكون من اتصل فعلاً هو وزير الخارجية، لكن وكما تقول الست، «فات الميعاد»!
ثم تطرق البرادعي للمفاوضات الارتجالية التي كانت تجريها السلطة في مصر مع الأمريكيين والإسرائيليين، وكان السادات يجري مفاوضاته مع وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر في البحر، على نحو يفقد القوم الجدية اللازمة والإحساس بالمسؤولية.
مما قاله البرادعي وكان مهماً، أن وزير الخارجية المصري لم يكن على علم بقرار السادات بزيارة القدس، وقد فوجئ الرئيس الأمريكي كارتر بإعلان السادات استعداده لزيارة الكنيست، ثم قيامه بالزيارة وكان يرى أن هذه خطوة ينبغي أن تسبقها خطوات أخرى في طريق حل الكثير من المشكلات بين الطرفين!
إذا كان البرادعي سبق له أن تحدث عن نشأته، فهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها عن تاريخه الوظيفي، وهنا وهناك فإنها نشأة عادية ليس فيها ما يقال، وكان الأمر يستدعي في هذه المقابلة، الاهتمام بتاريخ والده، كونه كان نقيباً للمحامين في عهد عبد الناصر، وبدت فكرة النقابات ضبابية ومشوهة في ذهن الرئيس، وعبر عن ذلك في خطابه له، لدرجة أنها كانت تتراءى له أنها أحزاب سياسية وقد فكر في إلغائها، بعد أن ألغت حركة ضباط الجيش في 1952، الأحزاب.
لقد كان هناك حوار وسجال بين عبد الناصر و»البرادعي الأب»، وكم كان مهماً إلقاء الضوء على الأزمة نقلاً عن نقيب المحامين عندما يعود إلى بيته ويتطرق للأمر مع ابنه لاسيما وأن الابن أكد في مقابلة «تلفزيون العربي» أنها كانت علاقة حوار!
إدانة الحكم العسكري
لا بأس، فالدكتور محمد البرادعي بدا لي في شهادته أنه يعيد تقديم نفسه للمصريين، بهذه الشهادة التي تنال من الحكم العسكري، وتعريه أمام الجماهير، فبذرة الفشل والارتجال لم تلق في أرض مصر في يوليو 2013، ولكنها زرعت في يوليو 1952، ونبتت وأينعت الآن!
لقد كشف البرادعي عن رأي مهم له، وهو أنه ليس مؤيداً لاتفاقية السلام مع إسرائيل، أو بالإجراءات التي قادت إليها، وبما يمثل تجاوزا منه لدعاية سابقة بأنه يقدم نفسه لإسرائيل، عندما قال عن الإسلاميين أنهم ينكرون الهولوكوست، فتحول إلى مثار سخرية واستهجان!
لقد كان البرادعي قيل يوليو 2011 مشغولاً بالمكايدة والانتقام، فلم يكن هناك مانع عنده من استخدام كل الأسلحة في حربه ضد السلطة المنتخبة التي عملت على تهميشه، وتنكرت لدوره السابق في الثورة، وكيف تحالف معه الإخوان عندما كانوا في موقف ضعف، ثم تجاهلوه عندما ظنوا أنهم لن يغلبوا بعد اليوم من قلة، وكانوا يظنون أن الجيش معهم، فماذا ينقصهم؟!
البرادعي في معركته لم يكن مهتما بانتقاء أسلحته، فلم يكن لديه ما يمنع من استخدام الأقذر منها ما دامت ستحقق له النصر بالضربة القاضية، وظن أن الجيش سيسقط الإسلاميين ويسلمه الحكم، وينقل عن محمد حسنين هيكل «عراب الانقلاب» قوله في إحدى جلساته الخاصة رداً على هذه الدهشة التي اعترت المغفلين، لقد طلبوا مني استدعاء وحش. فهيكل هو كان رسول المحبة بين رموز جبهة الإنقاذ في البداية وعبد الفتاح السيسي!
رغم أن هذه الشهادة، التي تمثل في جانب منها تقديما للبرادعي لطلب ترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، إلا أن من تابعوا مواقف الرجل يعلمون أنه الآن ميال للعزلة، فقد كانت «شهوة ملك»، أو «شهوة انتقام»، لكنه وجد الثمن وهو في أتون المعركة أكبر من أن يتحمله، فصار معنياً أكثر بضرورة أن يبدو ممثلاً للقيم الإنسانية فهو معني بمخاطبة التاريخ. ومع ذلك فلو أقسم على الماء فتجمد ثم قال إنه لن يقبل حكم مصر البتة، أو أن يكون جزءاً في حكمها، فلن يصدقه عبد الفتاح السيسي. ومن هنا كان التحرك على عجل للإجهاز عليه!
البرادعي إذا عسعس
أسئلة كثيرة تطرح نفسها على قائد الانقلاب هي تنويعات للسؤال الكبير: لماذا الآن؟! فلدى القوم هاجس أن البرادعي إذا عسعس وإذا تنفس فلا بد أن يكون هذا بتحريض غربي، أمريكي بالأساس، معني بالبحث عن بديل لحكم فشل في البر والبحر، رغم أن القادم الأمريكي يرى في عبد الفتاح السيسي مثله الأعلى، على النحو الذي ذكره إعلاميون سيساويون في زفة الاحتفال بنجاح «ترمب»!
والحال كذلك، فإن عبد الفتاح السيسي منتج برنامج «على مسؤوليتي» على قناة «صدى البلد»، تصرف بدوافع القلق على أنه إخوان، بايع المرشد العام للجماعة على المصحف والمسدس، وفي المنشط والمكره، فكان بحملته كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
فقد عمل أنصار الرئيس محمد مرسي كل ما في وسعهم ومنذ أن تشكلت جبهة الإنقاذ على تشويه البرادعي، ووصفه بالعمالة للغرب، بل وتم استدعاء دعاية نظام مبارك ضده لترديدها من قبل من كانوا متحالفين مع البرادعي في هذه الفترة، وهي أنه ساهم في تدمير العراق، ولم يكن هذا صحيحاً، فلولا تقريره لما أمكن أن تذهب الولايات المتحدة الأمريكية إلى بغداد بدون الحصول على الترخيص الدولي!
بيد أن البرادعي وقد ساهم في الانقلاب فاستحق أن يُسخط لشيطان، وفي المقابلة الأخيرة فإن دراويش الشرعية تحركوا ليرددوا كلام أحمد موسى، ومنهم من روج لهشتاج «البرادعي سليط اللسان» وجاء منتج برنامج «على مسؤوليتي» بتسجيلاته وتسريباته لينال من البرادعي على النحو الذي شفى صدورهم!
قبل الانقلاب العسكري، لو خُير البرادعي بين العسكر والحكم الإخواني المنتخب لاختار على قواعد المكايدة الحكم العسكري، والآن لو خير القوم بين البرادعي والعسكر فربما اعتبروا العسكر أخف الضررين، فلديهم اعتقاد أن الانقلاب ما كان ليقع لولا وجود البرادعي فيه مما جلب التأييد الغربي له.
لقد قامت حملة الإبادة الإعلامية على أن البرادعي عميل وخائن للوطن، وهو عين ما يقوله كثيرون ضد الانقلاب، والمفترض ألا يروج لهذا السيسي، لأن البرادعي «الخائن» و»العميل» كان عن يمينه وهو يلقي بيان الانقلاب، ثم أنه كان نائباً للرئيس المعين وفي سلطة مهدت للوضع الحالي، لكن الهلع الذي سببه ظهور البرادعي جعل قائد الانقلاب يتصرف كما لو كان اخوانيا، وفي وقت التضييق تعرف الإخواني بقوله: لست اخوانيا ولكني أحبهم في الله.
أضف تعليقك