التقيت الدكتور حسام عيسى بالميدان ابتداء من يوم 30 يناير/كانون الثاني بعد اتصال تليفوني، وذهبنا معاً لمقر مكتبة ميريت نهاية شارع قصر النيل.
كان غالبية اليساريين يتابعون دورهم بفعاليات الثورة.. تجهيزات من بطاطين واحتياجات المعتصمين بالميدان مكدسة بمدخل المبنى وعلى السلالم.. عدد كبير من النشطاء ضاقت بهم قاعات المكتبة، لكن شعوراً بسعة الثورة لم يجعل للضجر مكاناً.
لم نمكث كثيراً، اصطحبنا الأستاذ عبد العظيم مناف وانطلقنا للميدان، كان مزهواً كطفل؛ لأنه عاش ليرى بعينيه شباب مصر يفعلها، شاب حمله إخوانه وهو يهتف هتافات بديعة، يبدو أنه ينحتها نحتاً ببلاغة لم نعرفها إلا من شباب يناير، وكأنه أحد شعراء ثورة رومانسية وُلدت في خاطر كل مصري وتمنى أن يراها واقعاً.
حسام عيسى لمن لا يعرفه يميل للطول كثيراً، متدثراً بكوفية فرنسية رصاصية اللون من تلك التي تكفي لستر كامل الجسد، قال لي: عايز أقول لك حاجة يا محمد.. الثورة دي هتنجح.
لم أندهش ولم أتفاجأ، فقد كان شعوري من يوم 28 يناير أن الثورة ستعبر للنصر، لكن ما أرقني هو كيف يُمكنها أن تبني بلداً مفلساً جرّف نظام مُبارك ثروته!
عرضت مخاوفي على حسام عيسى، وكنت قبلها بيوم قد أعددت تصوراً لتكوين مجموعة من القانونيين للبحث عن طُرق لاسترداد أموالنا المنهوبة، وجدتُ ترحيباً وتشجيعاً.
استمر ثلاثتنا بالتجول في الميدان لساعات، نلتقي شباباً يحمل المستقبل بين ضلوعه، عاد الرجلان إلى ميريت بينما ذهبتُ للمركز الدولي للدراسات الذي كان أيضا مقراً مؤقتاً لحزب الوسط تحت التأسيس وقتها، بنهاية شارع قصر العيني مقابل قصر العيني الفرنساوي، التقيت صديقي عاطف عواد (الذي سيكون لاحقاً نائباً بمجلس الشورى)، أشبه بمكتبة ميريت أو هي تشبهه، كذلك كان مقر الوسط، نفس وجوه النشطاء بكل الغرف، بالطرقات.. بالمطبخ وحتى بمدخل العمارة.
سليم العوا، أسامة الغزالي حرب، جورج إسحاق، منار الشوربجي، محمد عبداللطيف، عصام سلطان وغيرهم، أبو العلا ماضي يستقبل قادمين ويودع مغادرين، ويشتبك في نقاش مع بعض ضيوفه، لا تشعر أنه يقطع نقاشه أو يهمل في الترحاب بقادم أو توديع مغادر، قدرة غريبة على القيام بكل شيء في وقت واحد.
المرة الأولى التي أكتشف فيها تلك الموهبة الاجتماعية الفذة لرئيس الوسط، بالإضافة لمواهبه الأخرى كسياسي هادئ الطبع ومنفتح على الجميع دون سقوف، أبدى سلطان حماسه باقتراح تبني قضية الأموال المنهوبة، فانتقلنا لغرفة أخرى مع الدكتور سليم العوا، الذي حولها بذكائه إلى شكل عملي، تواصلنا مع أصدقائنا القانونيين، واتفقنا على اجتماع يوم 7 يناير بمقر الحزب.
وفي اليوم الموعود تأسست المجموعة القانونية لاسترداد ثروة مصر شعبية لا تنتمي إلا لثورة يناير، مكونة من سبعة قانونيين هم: سليم العوا، وحسام عيسى، وسمير الشرقاوي، وعصام سلطان، وجمال جبريل، وخالد محمد، وكاتب هذه السطور، وجرى تكليفي أميناً عاماً للجنة.
تم تدشين صفحة على الفيسبوك للمجموعة، وبدأ نشاطها بتوجيه خطاب إلى سويسرا، ثم بريطانيا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي طلباً لتجميد أموال مبارك ومعاونيه والمقربين منه.
تحولت اللجنة بعد عدة أيام لواحدة من المجموعات التي تُعبر عن ثورة شعب يتطلع للبحث عن حقوقه في كل الاتجاهات.
في ليلة التنحي، وبعد بيان اللواء عمر سليمان، مساء الجمعة 11 فبراير/شباط 2011، تلقت اللجنة التهاني على صفحتها وإيميلها من حكومات ومنظمات وشخصيات عالمية، والأهم من ذلك كانت رسالة من سويسرا تُعلن للمجموعة أنه جرى الحجز على مبالغ بمئات الملايين باسم مبارك وابنيه وعدة شخصيات من معاونيه، تبين لنا لاحقاً أنها تقترب من المليار دولار.
ويبدو أن الصراع بين الطهارة والفساد كان واحداً من أهم أوجه الثورة المصرية، فقط تصاعد عمل المجموعة سريعاً بعد تنحي مُبارك، وعلا صوتها في المحافل الدولية.
وخلال شهر مارس/آذار 2011 استضافت اللجنة مساعد وزير الخارجية للشؤون الاقتصادية، وكان اللقاء بمكتبي، وحضره كل أعضاء اللجنة المؤسسين المشار إليهم، بالإضافة لشخصيات جديدة انضمت إليها لاحقاً كان من بينها المستشار محمد أمين المهدي، رئيس مجلس الدولة الأسبق، الذي رشحناه في اللقاء؛ ليصبح رئيساً للجنة رسمية لاسترداد الأموال المهربة، تتكون من عناصر شعبية ودبلوماسية وقضائية، وتتمتع بالاستقلال، ووجهنا بذلك خطاباً علنياً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، باعتباره الجهة التي كانت تدير البلد، وتحوز السلطتين التشريعية والتنفيذية وقتها.
انفض اللقاء بعد الاتفاق على التوصيات، غير أننا فوجئنا بعدئذ بعدة أيام أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة شكّل لجنة بمسمى اللجنة القضائية لاسترداد الأموال المهربة، غير أنه قصر تشكيلها على رئيس جهاز الكسب غير المشروع، مساعد وزير العدل رئيساً وعضوية بعض القضاة، دون أن يأخذ بأي من اقتراحاتنا بشأن تنوع تشكيل اللجنة واشتمالها على شخصيات تمثل المجتمع المدني.
اعترضنا ببيان مهم على تشكيل لجنة من جهاز قضائي كان موجوداً أيام مبارك، ولم يمنع أو يطارد أي فساد حقيقي، وإنما كان يعمل ضمن توجهات السلطة الفاسدة في تكوينها.
كشفت الأيام لاحقاً أن تشكيل اللجنة كان يستهدف غلق ملف استرداد الأموال، ومخاطبة الدول للامتناع عن التواصل مع مجموعتنا الشعبية، فقد استمر عمل اللجنة القضائية حتى عام 2015 دون أن تُنجز ملفاً واحداً أو تسترد الأموال التي قامت مجموعتنا الشعبية بالحجز عليها.
قبلت العمل مع حكومة صديقي العزيز الدكتور هشام قنديل لمهمة واضحة هي تفعيل ملف استرداد الأموال، قدمنا مقترحاً كاملاً يقتضي حل اللجنة القضائية وتشكيل غيرها وفقاً لمعايير الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وإصدار قانون بذلك، بالإضافة لحزمة من التشريعات التي تحمي المبلغين والشهود وتلزم الجهات المعنية بالإفصاح عن المعلومات التي لديها عن حركة الأموال الفاسدة.
طُلب مني أن أتفاوض مع القضاء لإقناعه بالقبول بحل لجنته وتشكيل لجنة جديدة، رغم قناعتي أن الأمر يتعلق بسلطة الحكم بأن تفرض رؤيتها لا باستشارة إحدى مؤسسات الدولة فيما إذا كانت تقبل أم لا.
رفض مساعدو وزير العدل أي تعاون مع أي لجنة جديدة لا يهيمنون عليها، بدعوى أن القاضي لا يعمل تحت إدارة غير قاضٍ، رغم أن رئيس اللجنة الذي اقترحناه كان مستشاراً سابقاً أيضاً، وكأن مئات القضاة الذين يعملون ليل نهار في دواوين الوزارات والمصالح لا يعملون تحت إدارة موظفين عموم، سواء وزراء أو مديرو المصالح!
كان الأمر يقتضي تدخلاً صارماً من رئيس الجمهورية بما له من سُلطة تشريعية حتى إقرار دستور 2012، لوضع الأمور في نصابها، غير أن هذا التدخل لم يحصل أبداً لحسابات يعلمها الرئيس المُختَطف.
استقلت من الحكومة في 27 ديسمبر/كانون الأول 2012 مقرّاً بعدم قدرتي على تحقيق حلم بناء مفوضية وطنية لاسترداد أموالنا في ظل غياب الإرادة السياسية، طرقنا أبواباً أخرى بإدخال نص بالدستور يوجب إنشاء مفوضية وطنية لمكافحة الفساد، وتكون مهمتها استرداد الأموال المهربة، وقدمنا مشروعاً لقانون استعادة الأموال لمجلس الشورى الذي حمل مهمة التشريع مؤقتاً.
فجاء الانقلاب ليختار هذا النص من كل نصوص الهيئات المستقلة ليحذفه، ويحذف معه كل سلطة منتخبة، كان يحمل مهمة واضحة هي غلق ملف استرداد أموال مصر المنهوبة، كان استكمالاً لمسيرة قُصد بها الالتفاف على قضية سرقة ثروات البلاد تماماً كالالتفاف على الثورة بكل مطالبها.
واليوم يعلن الانقلاب وفاة القضية، لكنها قضية لا تموت، فحقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم، وقد استردت الدولة العبرية أموالاً منسية ليهود في سويسرا بعد سبعة عقود، واستردت إيران 24 ملياراً من أموالها من الولايات المتحدة بعد سنوات من الضغوط والمواجهات، واستردت شعوب حقوقها بالإصرار.
سنستمر في حمل قضية استرداد أموالنا جنباً إلى جنب استرداد ثورتنا، ونحن على يقين في استردادهما معاً، وإن طال ليل المستبدين والسارقين.
أضف تعليقك