هذا أول مقال لي في موقعكم المميز، وفكرت كثيرًا هل أكتب مقالًا في قضايا الفكر لأنها أصل كل الأمور الأخرى، وكل الأمور هي فرع من تصورها، والأمة بحاجة لوعي فكري يصفي ما هو إسلامي أصيل من التراث والعادات التي اختلطت به؟ أم أكتب في السياسة حيث تمر الأمة اليوم في مخاض شديد للتخلص من الإرهاب والطغيان، وكلاهما كان سببًا رئيسًا في فتح الباب للتدخل الأجنبي من جهة، والتمكين للإرهاب الصهيوني من جهة أخرى؟
أم أكتب في الإدارة وإرشاد الشباب والفتيات للخروج من عبودية الوظيفة، والانتقال إلى تأسيس مشروع ينفعهم وينفع أمتهم؟ أم أكتب في القيادة وكيف نكتشف ونُعِد قادة المستقبل، وندربهم ليقودوا الأمة نحو مستقبلها الزاهر؟ أم أكتب في النهضة، وكيف نصنعها، ونستعمل أساليب التخطيط الاستراتيجي الحديث لتكون طموحاتنا محددة وقابلة للقياس، بدلًا من الشعارات العامة مثل "الإسلام هو الحل"؟ أم أتحدث حول المقاومة التي تحاول إبقاء الأمة في تخلفها، وأنواع هذه المقاومة، وكيفية مقاومة المقاومة، وهي علوم حديثة يجب الاستفادة منها؟
يمكن أن تكون السياسة طريقًا للجنة، بل أكثر أجرًا من العابد الصائم القائم، حيث الأخير ينفع نفسه فقط، بينما السياسي النظيف العاقل المخلص سينفع كل البلد، بل قد يمتد أثره خارج بلده.
كل هذه المواضيع وغيرها خطرت في ذهني وأنا أتفكر حول ماذا أكتب، فقررت أن أستشير القرّاء الكرام، فأرجو أن تختاروا أيها أولى بأن أكتب حولها في المقالات القادمة. وإلى ذلك الحين قررت أن أتحدث حول خلطة تفرد بها الإسلام في الوصول إلى رضا الله سبحانه وتعالى. في الأديان الأخرى يبرز الطريق الروحي للوصول لرضى الله سبحانه وتعالى، وكذلك هناك الطريق المؤدي إلى إرضائه عز وجل من خلال العبادات بطقوسها المعروفة.
أما الإسلام فقد فتح الباب للتفنن في الوصول إلى رضى الله سبحانه بطرق لا تعد ولا تحصى، ومن هنا كان عنوان هذا المقال "التفنن في الطرق إلى الله ﷻ". كنت كتبت مرة أن المسلم لديه اختيارات كثيرة كطرق للجنة ومنها العبادة والعلم والصدقة والجهاد والسياسة والفن وغيرها، فجاءتني اعتراضات كثيرة كيف تكون السياسة طريقاً للجنة! بل جاءتني استغرابات أكثر عن الفن حيث لا يتصورون أنه يمكن بحال أن يكون طريقاً للجنة!
وبالطبع يمكن أن تكون السياسة طريقًا للجنة بل أكثر أجرًا من العابد الصائم القائم؛ حيث الأخير ينفع نفسه فقط، بينما السياسي النظيف العاقل المخلص سينفع كل البلد، بل قد يمتد أثره خارج بلده، ويتجاوز عمره إلى ما بعد عمره بالقوانين والمشاريع المفيدة التي كان هو السبب في تحققها. وهذا ما رأيناه في شخص مثل عمر بن عبد العزيز ويوسف بن تاشفين -رحمهما الله ﷻ-، ناهيك عن السياسيين الكبار من أصحاب الرسول ﷺ ورضي الله عنهم جميعًا.
أما استغراب أن يكون الفن طريقًا للجنة فيدل على مدى ارتباط الفن بالفساد الأخلاقي في أذهان الناس! كما يدل على حجم التوعية اللازمة لتغيير قناعات الناس إذا أردنا أن نقيم الحضارة الراشدة. وبعض الردود حصرت الفن في الإسلام بالخطوط والمباني، ورغم أنهما نموذجان رائعان في تاريخ أمتنا إلا أن الفن أوسع منهما بكثير، بل لا يمكن البناء الحضاري بدون الفن وتذوق الجمال! تخيلوا كم ستكون الحياة الدنيا مملة بدون أنواع الفنون (البيوت بلا لوحات، والسجاد بلا نقشات، والسيارات بلا أشكال، والألوان بلا انسجام، والإنتاج المرئي والمسموع كله نشاز، والمتاحف فارغة، والملابس كلها نفس التصميم، والكمبيوتر للعمل الرسمي فقط، والدعوة بالوعظ فقط. بل تخيلوا أن كل أنواع الفنون هي في يد غير المسلمين، فما هو طعم حضارة الإسلام؟!
عبادة الله ﷻ تتم بأمرين فقط وهما إخلاص النية، وعدم مخالفة ما ثبت من الشريعة الحنيفة. وعليه فالفنون والعلوم والإنتاج الصناعي والتجارة والسياسة والعمل العسكري ومقاولات البناء وغيرها، كلها يمكن أن تكون عبادة إذا لم تخالف الشرع الصحيح، واتسمت بالنية الصالحة مثل العمل لنهضة الأمة أو حتى طلب الرزق الحلال. بل إن علماء الأمة في القديم والحديث اتفقوا على أن أولياء الله ﷻ ممكن أن يكونوا تجاراً أو صناعاً أو عسكريين وغيرهم، ويجمعهم قوله تعالى "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" ولهما شرطان فقط: "الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" الآن تخيلوا كم طريق يمكن أن تبدعوه وتتفننوا فيه للوصول للجنة!
وألقاكم في مقال آخر بإذن الله تعالى ونسألكم الدعاء.
أضف تعليقك