مائتا عام، كلما تقدم الشعب المصري خطوة تراجع في مقابلها خطوة، فصورته في لحظة تاريخية تتناقض مع صورته في اللحظة التالية، فلا يُمكن أن يُصدق أحد أن الشعب الذي وقع فريسة الاحتلال الإنكليزي سنة 1882 بكل سهولة، هو نفسه الشعب الذي حقق أبناؤه انتصارات مدوية قبل ذلك بأربعة عقود في اليونان والشام وجزيرة العرب وتركيا؛ بل قبل الاحتلال بعشرة أعوام كان يفتح مجاهل القارة الإفريقية ويساعدها في الانتقال بقفزة واحدة من حالة الشتات لحالة الكيانات السياسية، فيبني فيها الجسور، ويمد الطرق، ويشيد المراكز الحضارية.
ولا يتخيّل أحد أن الشعب الذي عانى الاستبداد وحكم الفرد منذ الخمسينات، يملك تاريخاً ديمقراطياً وحياة نيابية عريقة، والتي برغم ما شابها من مشكلات مثّلت نموذجاً سمح لمصر بأن تُحقق إنجازات اقتصادية وسياسية منذ ثورة 1919.
واليوم، فإن مَن يرى مصر بعد 3 يوليو/تموز 2013، يظنّ أن شعبها لم يصنع ثورة في 2011 ولم يُسقط طاغية، ويفرض على الجميع معادلات جديدة.
يُمكن أن نرى بعض تفسير ذلك في حنايا تعليقات رواد السوشيال ميديا الذين وضعوا أيديهم على كثير من الأمراض التي نعاني منها.
وعلى سبيل المثال، فإن تعبير "أزمة مصر في نخبتها" لم يأتِ من فراغ أو نتيجة شعور بالإحباط بسبب إخفاق النخبة المصرية في التوافق لحماية ثورة يناير/كانون الثاني وتشرذمها للدرجة التي أدت لإجهاض موجتها الأولى.
فصورة تعامل النخب السياسية مع بعضها أثناء ثورة يناير وما تبعها لم يكن إلا تكراراً أميناً لما جرى أثناء حكم إسماعيل باشا، وانتهى إلى انقسام النخبة المصرية بين حركة ليبرالية وتيار محافظ، سمح بمرور تحالف الاستبداد الذي مثّله الخديو توفيق، ومن ورائه رموز دينية وفكرية، والسلطان التركي، والجيش الإنكليزي.
وتبع ذلك تهليل كتاب ومفكرين وشعراء ومشايح لإعدام قادة الثورة ولإسقاط دستور فبراير/شباط 1882 ولإنهاء دور مجلس شورى النواب، ولنفي زعيم الثورة لخارج البلاد ونعته بالتمرد، وتشويه الوجدان الشعبي بتحويل الثورة إلى "هوجة عُرابي".
نرى نفس المشهد تكرر بعد 1952، إذ وضعت أقلام وكفاءات وعقول نفسها تحت أمر السلطة لمحو كل الماضي وتشويهه وقطع العلاقة معه، فأصبح كل ما قبل 1952 صورة غير حقيقية عن إقطاع متخلف وتبعية للأجنبي وحرمان للشعب، أما بعدها فراجت صورة رومانسية عن مجانية التعليم، والعدالة الاجتماعية، ومشاركة الشعب في الحكم، واستقلال الإرادة الوطنية.
نفس السيناريو يحدث أمام أعيننا بعد ستين عاماً؛ لنرى كتاباً وصحفيين ومفكرين وعلماء ورجال قانون وأناساً من أهل الصفوة العلمية والثقافية يحملون أدواتهم من أقلام أو صحف أو ميكروفونات وكاميرات أو أعمال فنية وأدبية أو حتى أحكام قضائية لخدمة مشروع لا يرى في ثورة يناير إلا "هوجة يناير"، ولا يرى الشعب إلا قاصراً لا يُمكنه الاختيار ومتخلفاً لا يستحق الديمقراطية، ولا يرى لمصر لريادة في محيطها؛ لأنها "شبه دولة"، ولا قدرة على توفير ما تحتاجه لأنها "فقيرة قوي".
نرى المشهد نفسه الذي قرأناه في التاريخ الحديث مرتين، ومع ذلك هناك من يقبل أن يتكرر أمامه دون أن يُبدي امتعاضاً، بل ويقبل أن يكون جزءاً من ماكينة الهدم التي تسعى لتشويه وعي الشعب.
من المنطقي أن يتحالف الاستبداد والفساد والترويج؛ لكونه يمثل طوق النجاة للشعب، بينما يشوه كل من خالفه، فاحتكار السلطة والمال بالنسبة لهذا التحالف قضية حياة أو موت.
لكن من غير المنطقي أن نجد في حاشية السلطة الفاسدة من يحلمون بالحرية، أو يتمنون استقلال الإرادة الوطنية، أو يسعون لإنجاز نهضة اقتصادية كبرى، أو حماية حقوق المواطن وحرياته.
إذ لا يمكن لتحالف السلطة والفساد أن ينجز أياً من الآمال التي تتطلع إليها النخبة، فبناء دولة القانون يُناقض بنية دولة القمع، وتحقيق نهضة اقتصادية يتجافى مع التحالف مع الفساد.
لكن هذا غير المنطقي حدث بعد انقلاب 3 يوليو/تموز، حتى إنني أشعر برد بمن يتأفف من مصطلح "انقلاب" الذي أستعمله، باعتباره مصطلحاً قديماً.
وكأن السلطة عادت لأصحابها، ولا يجوز نعتها بأنها انقلابية، وكأن انتقالها المؤقت خلال ثورة يناير لجهة أخرى كان خروجاً عن السياق، وأن الشرعي ما اعتاده الشعب لا ما اختاره.
جزء من مشكلة النخب لدينا أنها لا تُدرك أهميتها، فتعتبر نفسها مجرد أداة بيد السلطة، أو مرآة تعكس وضعها، ولا تملك تغييرها، وبالتالي فإنها لم تسعَ أبداً في عهد مبارك لتغيير السلطة.
فلمّا حدث التغيير بتدخل جيل الشباب الذي تربى على السوشيال ميديا، فإن النخبة عجزت عن الخروج من جلباب اعتادت عليه ستين سنة، فاعتبرت أن من الطبيعي أن تنتقل السلطة من مبارك للمجلس العسكري، وأن من غير المقبول أن تُسفر الانتخابات عن اختيار رئيس من خارج حاشية السلطة.
الحقيقة هي أن الاختلافات الفكرية بين النخب المصرية ليست إلا وسيلة لتغطية ما تعودت عليه وإلباسه رداء المنطق أو الأيديولوجيا، فالتخوف من الدولة الدينية لم يؤدِّ لحماية دولة مدنية بل لترسيخ السلطة الاستبدادية، كما أن التخوف من الليبرالية والعلمانية لم يؤدِّ لترسيخ القيم الدينية، وإنما لازدهار الاستبداد الذي يعتاش على خلاف وهمي عنوانه "الديني والعلماني".
استسلام النخبة للصورة النمطية التي فرضتها عليها حكومات ديكتاتورية، جعلها تتناقض مع ما تؤمن به من طموح للوصول لحالة ديمقراطية أو لنهضة اقتصادية.
فالانتقال لهذه الحالة الأخيرة يقتضي الإيمان بالتعددية والقبول بالآخر، كما يقتضي نزع السلطة من يد من يمتلك القوة؛ لأن اجتماعهما معاً لا يؤدي إلا لتغوله على مؤسسات الدولة، ومن ثمّ سحق الشعب.
نحن للأسف أمام عوالم زجاجية منفصلة تعيش فيها النخب المصرية، فترى بعضها، لكنها لا يُمكنها أن تتواصل مع بعضها، فالتيار الإسلامي - حتى بعدما حاق به من قمع واسع - لا يمتلك الشجاعة حتى الآن للتعرف على الآخر باقتحام أدبياته وقراءة أفكاره والتواصل معه فكرياً، وليس على طريقة التحالفات السياسية العارضة التي تنفض بانفضاض موسمها.
كما أن القوى الليبرالية لم تسعَ للتعرف على رؤية اليسار بشأن ضرورة العدالة الاجتماعية لإطلاق روح الإبداع والمبادأة التي يحتاجها أي اقتصاد للنهوض، كما تشيح بوجهها كلما حدثتها عن رؤى الحركة الإسلامية من قبيل الاقتصادي الإسلامي، أو نظام الحكم الإسلامي باعتبار ذلك من خرافات العصور الوسطى.
وبين هؤلاء وأولئك لا يكف اليسار المصري عن لعن أنظمة الحكم المتتابعة بسبب إهدارها للعدالة الاجتماعية، لكنه يُنافح عنها باعتبارها حارسة لما يسميه "الدولة المدنية" في مواجهة الطامحين للدولة الدينية، أو في مواجهة النيوليبرالية، بينما لا توجد دولة مدنية إلا في خيالاته، ولا عدالة اجتماعية إلا في أدبياته، ولا تهديد بدولة دينية إلا في أضغاث أحلامه.
إن كل فريق يعيش ملهاته في عالمه الخاص، ولا يرى في الآخرين إلا أخطاراً يجب مواجهتها، وبما أنه غير قادر على مواجهتها، فإن القبول بالدولة البوليسية يُصبح جزءاً من القناعات الفكرية لدى الجميع.
الفارق بين النخبة الفكرية التي أسست للنهضة الصناعية الكبرى في أوروبا ونخبتنا هي انفتاح النخبة الأوروبية على كافة الأفكار، والإيمان بأن من لا يملك سوى فكره - مهما كان الاختلاف معه - ليس هو الخطر الواجب مواجهته، بل حليف يجب تفهمه والتحالف معه لمواجهة الخطر الحقيقي والمتمثل في الأنظمة المستبدة التي لا تخشى إلا الفكر والقدرة على التفكير، ولا ترى خطراً إلا فيمن يُفكر.
أضف تعليقك