الجريمة البشعة التي تعرضت لها حافلة تقل جمع من المسيحيين المصريين كانوا بطريقهم لزيارة أحد الأديرة في المنيا يوم الجمعة الماضي، وأودت بحياة 30 قبطيا ليست الأولى التي يتعرض لها مسيحيو مصر، ورغم الإدانات الواسعة للجريمة من كل القوى المصرية وفي مقدمتها القوى الإسلامية (إخوان مسلمون وسلفيون ومستقلون)، إلا أن تلك الإدانات لن تمنع مرتكبي تلك الجرائم (تنظيم داعش على وجه الخصوص) من الإقدام على المزيد منها، وذلك لقناعتهم أن المسيحيين هم الحلقة الضعيفة بين مساندي السيسي، وأن أي أذى يوقعونه بهؤلاء المسيحيين يؤلم السيسي ونظامه ويظهر عجزه عن حماية أنصاره، وفشله في توفير الأمن للمصريين، ناهيك عن بعض التفسيرات التي تحمل أجهزة أمنية رسمية المسؤولية المباشرة عن بعض تلك الجرائم بهدف توظيفها لكسب تعاطف دولي وإشغال الشعب المصري بمثل هذه الأزمات الطائفية لصرفه عن المطالبة بحقوقه والدفاع عن قوته.
لم يتعرض الأقباط في تاريخهم الحديث لمآس كما حدث لهم منذ انقلاب السيسي في الثالث من يوليو 2013 رغم أنهم دعموا هذا الانقلاب أملا في التخلص من الإسلاميين من ناحية وبحثا عن الأمان من ناحية أخرى.
بمقارنة بسيطة بين ما وقع من جرائم طائفية بحق الأقباط بعد ثورة يناير وبعد الانقلاب نجد البون شاسعا، فقد وقعت 3 حوادث كبرى فقط خلال سنتين ونصف هي عمر الثورة المصرية، أولاها في أطفيح، والثانية في ماسبيرو، والثالثة في إمبابة، وشهد عهد الرئيس مرسي حادثة واحدة في مدينة الخصوص قتل فيها 5 أقباط ومسلم (5 إبريل 2013) أما بعد الانقلاب فحدث ولا حرج، بدءا من اليوم الأول للانقلاب مرورا بالحوادث التالية لفض اعتصامي رابعة والنهضة، ووصولا إلى ذبح المسيحيين في سيناء وليبيا على يد تنظيم داعش وتفجير بعض الكنائس وما خلفه ذلك من عشرات القتلى والمصابين.
تكرار الجرائم الإرهابية الكبرى بحق المسيحيين يكشف فعلا عجز نظام السيسي عن حمايتهم وهو الذي وعدهم بذلك، وكان هذا الوعد هو عربون دعمهم اللامحدود لانقلاب الثالث من يوليو 2013، بدءا من مشاركتهم الكثيفة في مظاهرات 30 يونيو ومرورا بمشاركتهم الكثيفة أيضا في مظاهرات جمعة التفويض يوم 26 يوليو 2013، وحشدهم لرجالهم ونسائهم إلى مقار اللجان الانتخابية في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في يناير 2014 أو في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية التالية، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن جميع المسيحيين المصريين ساندوا السيسي وانقلابه إذ ضمت صفوف مناهضي الانقلاب منذ البداية بعض الشخصيات المسيحية التي دفعت ثمنا كبيرا لمواقفها سواء سجنا أو مطاردة مثل غيرهم من رافضي الانقلاب.
كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير نقطة انطلاق كبرى للأقباط للانخراط في العمل العام عبر آلياته المدنية بعيدا عن الكنيسة، حيث شارك الشباب الأقباط في الثورة بالمخالفة لقرار الكنيسة برئاسة البابا شنودة الذي ظل وفيا للمخلوع مبارك حتى اللحظات الأخيرة، وشهد ميدان التحرير نماذج رائعة من الوحدة الحقيقية والشعور الوطني المتدفق بين المسلمين والمسيحيين، وشهد الميدان صلوات مسيحية حاشدة لأول مرة في التاريخ القبطي، كما شارك المسلمون في حماية الكنائس خلال أيام الفلتان الأمني التي أعقبت انهيار جهاز الشرطة، وشارك المسيحيون بعد ذلك في العمل السياسي من خلال الأحزاب المدنية، لكن ذلك لم يرق للكنيسة التي شعرت بتقلص دورها، فتحركت لاستعادة سلطتها السياسية، وشاركت في حملات تخويف للمسيحيين وإقناعهم أنها الملاذ الآمن لهم القادر على التعبير عن احتياجاتهم الأمنية، وإيصالها للمسئولين، ونجحت بالفعل في استرداد دورها والإمساك بزمام القيادة مجددا، ونجحت في حشد المسيحيين خلف الانقلاب منذ اللحظات الأولى.
لكن تكرار الجرائم الإرهابية بحق المسيحيين دفع الكثير منهم لإعادة النظر في علاقة الزواج الكاثوليكي مع النظام العسكري، الذي لم يف بتعهداته تجاههم، والذي يبيع لهم الوهم كحال غيرهم من عموم المصريين، وهناك الكثير من الشواهد على هذا التحول خصوصا في أوساط الشباب القبطي تزخر به صفحات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، لكن هذا الشباب الناقم على السلطة والمتضجر من قيادة الكنيسة لم يبلور موقفا سياسيا محددا حتى الآن، إذ أنه لا يزال يعيش في ظل مخاوف متصاعدة من العمليات الإرهابية التي يمكن أن تطاله في أي وقت، وهنا يأتي دور القوى الإسلامية الراشدة لطمأنة المسيحيين على حاضرهم ومستقبلهم، ليس فقط بعبارات إنشائية ولكن بمواقف عملية، وحوارات سياسية عميقة.
قد يقول قائل إن القوى الإسلامية ذاتها تعرضت لحرب إبادة أكثر مما يتعرض له الأقباط على يد داعش وغيرها من الجهات المجهولة، ولكن هذا الكلام مردود، حيث أن القوى الإسلامية رغم كل الضربات التي تعرضت لها لا تزال موجودة، ولا تزال كلمتها مسموعة لدى قطاعات واسعة من الشعب المصري، وقد يقول قائل آخر إن المسيحيين هم من يرفضون الحوار مع القوى الإسلامية، ويؤلبون عليهم العسكر في الداخل والقوى العالمية أيضا، وردي أن ذلك لا ينبغي أن يمنع السعي لفتح الحوار، استشعارا للمسئولية الوطنية والتاريخية للقوى الإسلامية عن وحدة الوطن، وتعزيز الترابط المجتمعي، ومواجهة المخططات المعادية التي تريد توظيف هذه الاحتقانات الطائفية لتفتيت مصر، وتمزيق نسيجها الوطني، بقيت كلمة أخيرة وهي أنني أوجه دعوتي هذه للقوى الإسلامية لأنني انتمي إليها، واقدر مسئوليتها، ولكنني في نفس الوقت أتمنى أن تجد كلماتي من يستمع لها من عقلاء الأقباط حتى نقضي على الفتنة معا، ونبني وطننا معا، وننعم بخيره معا.
أضف تعليقك