منذ ثانية واحدة
في منشور لي على صفحتي على الفيسبوك كتبت التالي: "سكارى القدس وحشّاشوها أكثر ارتباطًا بالمسجد الأقصى من ثلاثة أرباع متديني هذه الأمة". لم يثر هذا المنشور قدرًا كبيرًا من اللغط، على خلاف العادة مع هذا النوع من الكتابات، التي قد تبدو مستفِزّة في حال لم تُلحظ الدقة التي يقوم عليها النصّ المكتوب الذي يتوخى المقارنة أو إبراز المفارقة.
بالتأكيد لم يكن قصدي تفضيل السكارى والحشاشين على المتدينين، ولكن كان قصدي تجلية المعنى الوجودي المتجسد في المسجد الأقصى بالنسبة لسكان المدينة المقدّسة، وهذا المعنى متجاوز لسكان المدينة ومستغرق لأهل فلسطين كلهم، ولاسيما أهالي الضفة الغربية، الذين يجتازون المعيقات كلّها للوصول إلى المسجد المقدّس، خاصة في رمضان.
في رمضان لا يملّون، بعضهم من بعد صلاة الفجر يبدأ محاولته للدخول إلى القدس، وبعضهم من منتصف الليل، ومن يعجز عن التحايل على جنود الحاجز، لا يترك منفذًا إلا وبحث عنه؛ الزحف من داخل بلّاعة، أو تسلق الجدار الفاصل والقفز من فوقه، شيوخًا وفتيانًا، تتحطم عظام بعضهم وهم يحاولون النزول من على الجدار، تتمزق ملابس آخرين، ويغرق آخرون في وحل البلاعات، ويُعتقل البعض، وهكذا، بما يحيّر المرء في ذلك المعنى الذي يهوي إليه الفلسطينيون.
الأبلغ من ذلك نضالاتهم الطويلة، وملاحمهم الدامية، من هبّة البراق، إلى مجزرة الأقصى، إلى انتفاضة الأقصى، إلى انتفاضة القدس، وغيرها. يمكنني القول جازمًا، إن هذا الشعب وحده، بقتاله بأظافره ولحمه العاري، بحجارته وبنادقه البدائية الشحيحة، هو الذي جعل المسجد المقدّس الثالث لدى المسلمين مفتوحًا حتى اليوم.
لا منّة لهذا الشعب على مسجدهم، رمزهم المقدس، ومعناهم المتسامي المتجسد، وكل من يتابع نقاشاتهم، يجدهم يُشبعون أنفسهم تقريعًا ولومًا، على ما يبدو لهم تقاعسًا، أو ضعف فعل، في مواجهة ما يتعرض له المسجد.
في المقابل، وليس من اليوم، ليس بعدما غرق العرب في شقوة مؤامرات حكامهم، الذين جمعوا كيدهم ليقظة العرب الكبرى التي انبثقت مع الثورة التونسية ثم ما تلاها من ثورات، ولكن منذ القديم، وحضور المسجد المقدّس في نقاشات العرب، وفي اهتمامهم عمومًا، متقاصر، لا يتقاصر فحسب عن اهتمام الفلسطينيين به، إذ قد يكون هذا مفهومًا، ولكنه يتقاصر عن المكانة الدينية التي قرّرها الإسلام لهذا المسجد ولهذه البقعة المباركة، وبنصوص لا يمكن طمسها بعبث مخبري الحكومات، من مثقفين كما هو حال يوسف زيدان، أو مشايخ، أو سفهاء اللجان الإلكترونية في مواقع التواصل الاجتماعي.
لا تروم هذه المقالة تفسير ذلك، وقد أشرت لطرف من هذا التفسير في أماكن أخرى، ولكنّها تودّ القول إنّ هذه الحالة القاصرة، لم يكن يغطي عليها سوى جهود الإخوان المسلمين قبل نكبتهم الكبرى، وإن كان ثمّة من فائدة لتلك النكبة فهي تعرية العورات المتزينة بالزيف والضلال، عورات قادة السياسة والرأي والمجتمع في هذه الأمة المنكوبة بهم أساسًا.
دعونا نسأل اليوم، وبعدما وقعت مذبحة القتل والسجن والتشريد على الإخوان المسلمين؛ من يُخرج الآن الجماهير إلى الشوارع معذرة إلى الله، وقيامًا بالممكن من الواجب؟ تقريبًا لا أحد. حينما أُزيح الإخوان المسلمون عن المشهد العام، بدت الفضيحة صارخة. فهل كانت إزاحة الإخوان المسلمين عن المشهد بذلك البطش من جملة التقرّب إلى الكيان الصهيوني؟ ومن جملة التخلّص من همّ وعبء القضية الفلسطينية؟ ومن جملة التمهيد للتطبيع مع الكيان المجرم؟!
لا جماهير في الشوارع تحمل العدو على شيء من الخشية، وتدفعه قليلاً للإحجام، ولا قادة رأي يعبّؤون الجماهير، ولا كيانات حزبية وسياسية تجعل قضية المسجد في قلب برامجها وخطاباتها وتحركاتها. لا أحد يملأ الفراغ الذي أوجدته إزاحة الإخوان المسلمين.
فهل كان الإخوان المسلمون وحدهم الذين صدقوا في إيمانهم بهذا المسجد وقضيته، حتى صار وكأنه لهم دون العالمين؟! من يقرأ عنوان المقالة قد يجد نفسه مستفَزًّا، فيحمل العنوان على أسوأ محمل يتبادر إلى ذهنه، ولكن المقالة في الحقيقة، وإن كانت تشهد للإخوان بذلك الدور، فإنها لا تقصد مديحهم ولا استعادتهم عاطفيًّا، ولكنها تعكس السؤال وتطرحه على كل القوى التي تحالفت مع أنظمة الطاغوت، أو لم تتحالف؛ عن موقع المسجد الأقصى منها اليوم.
وتلك التي تحالفت معه، وبعضها قوى تحسب نفسها على العمل الإسلامي؛ ألا تشعر بالخزي والعار، وهي عاجزة، أو تجد نفسها ممالئة للباطل، تدافع عنه، حتى عن تآمره على فلسطين بقدسها ومسجدها، وهي تكتشف أن إزاحة الإخوان، كانت في النتيجة في خدمة الكيان الصهيوني؟! تخيّلوا كيف يحوّل الطغاة أوساطًا واسعة من الفاعلين إلى عملاء في خدمة محتلّي المسجد الأقصى.
مع تغييب هذه القوّة التي يبدو الآن أنها كانت وحيدة في حشد الجماهير نصرة للأقصى، لا نجد الصمت المريب فحسب، ولكن الطغاة الجدد؛ والمسجد يغلقه الصهاينة وتُفرض عليه إرادتهم بالكامل، لا يستطيع مشايخهم أكثر من دعاء خجول عابر ووحيد على موقع تويتر، ويبدو أن بعضهم يجبن حتى عن هذا، بينما ينشط مخبرو الطغاة الموظفون في اللجان الإلكترونية، كذبًا وزورًا وسفهًا؛ للمنّ والأذى، ولاتهام الفلسطينيين ببيع أرضهم للصهاينة!
أضف تعليقك