منذ ثانية واحدة
بلد غالبية سكانه مسلمون (سنة)، وليس فيه مشكلة تعدد أعراق، ليس فيه مشكلة كردية مثلا كسوريا وتركيا والعراق، لدينا أمازيغ، وأهل النوبة، وأهل سيناء، ولكن بالنسبة لحجم الدولة المصرية لا تعتبر هذه الأمور مشكلة كبيرة، فالغالبية الكبيرة تستطيع بمنتهى البساطة أن تحتوي مثل هذه الأزمات الصغيرة، ولكن هناك من يتعمد أن تظل هذه المشكلات عالقة لعشرات السنين.
الطائفة الكبرى التي تعتبر (أقلية) أعني إخوتنا المسيحيين، هم من مذهب واحد، فغالبيتهم العظمى مسيحيون أرثوذوكس، تجمعهم كنيسة واحدة، ولا يرون أنفسهم إلا جزءا من مصر (رغم محاولات إلصاق تهمة الرغبة في الانفصال... هذا كلام لا دليل عليه).
هذه الدولة حدودها البرية والبحرية واضحة، فهي دولة قديمة قدم التاريخ (حتى وإن عبث بتلك الحدود عميل مأجور هو ومجلسه العسكري المزعوم).
شعب هذه الدولة (بكل مكوناته) يملك قيما مشتركة، فالمشترك القيمي بين المسلمين والمسيحيين، بين شمال مصر وجنوبها، بين واديها وصحاريها ... هذا المشترك القيمي (المحافظ) متطابق، وهو أمر مميزاته أكثر من عيوبه (إذا نظرنا للأمر من منطلق توحيد الدولة في وجه محاولات التقسيم والتفتيت).
هذه الدولة لم تعرف في تاريخها الطويل حروبا أهلية تذكر، ولم تعرف حالات التطهير العرقي (اللهم إلا في حالة معينة حين فرضت المسيحية، وقام الرومان بتطهير عرقي ضد الوثنيين في ذلك الوقت).
هذا البلد.. يتحدث أهله جميعا بلغة واحدة (مع اعترافنا بوجود لغات أخرى)، ولم يعرف أي شكل من أشكال تجريم استخدام لغات أخرى (كما حدث في تركيا مثلا، حيث كان التحدث باللغة الكردية جريمة ترسل صاحبها إلى سجن ليس له قرار).
لن أطيل في حصر عوامل توحيد المصريين ... فهي أكثر من الحصر.
* * *
رغم كل ذلك نرى هذا البلد يكاد يتفتت من شدة الانقسام، وهو في وضع سياسي بائس، وفي انقسام واجتماعي خطير!
كيف استطاعت أوروبا (وفيها عشرون لغة أساسية بل أكثر)، بعد حرب قتل فيها عشرات الملايين، ثم بعد حرب باردة استمرت نصف قرن قسمت القارة نصفين ... كيف استطاعت أوروبا بعد كل ذلك أن تتوحد وفي زمن قياسي؟
حل هذا اللغز هو وجود إرادة سياسية لدى قيادات هذه الدول في التوحد، هذا هو السبب الأهم والأكبر!
هذه القيادات تقوم بواجبها لكي يتحقق هذا التوحد، تبحث عن أسبابه، وتقاوم معوقاته، تستعين بكل ما يمكن الاستعانة به لكي تنجز هذا الأمر، لأسباب كثيرة من أهمها مصلحة الدول والشعوب، ففي عصر الكيانات الكبرى لا وزن لأوروبا المتفرقة ... لا بد من أوروبا موحدة بشكل ما.
أما سبب تفرقنا فهو العكس تماما.. لقد رزقنا الله بمجموعة من الخونة والعملاء، وهم اليوم في سدة القيادة، يحاولون بكل الأشكال تفتيت وتفريق هذا الشعب الذي وحدته عوامل التاريخ والجغرافيا، قبل عوامل الدين واللغة والقيم المشتركة (هذا هو السبب الأهم والأكبر لتفرقنا).
لذلك تراهم يخترعون طائفة جديدة (سمها الإسلاميين أو الإخوان.. سمها ما شئت) لكي يقضوا على فكرة أن المجتمع المصري غالبيته مسلمون سنة (لو كان لدينا طائفة شيعية أو علوية لتم استخدامها بنفس طريقة بشار الأسد، وصدام حسين، وآل سعود، وآل خليفة ... الخ)!
ثم يقومون باستقطاب الكنيسة لمزيد من الوقيعة بين مكونات المجتمع الطبيعية، وهذا أمر تم استخدامه بشكل مدروس منذ بدأ الحكم العسكري في مصر في منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
قبل بدء الحكم العسكري في مصر.. كان المصريون ينتخبون زعامات قبطية مثل مكرم عبيد، وكان غالبية المصوتين له من المسلمين.
لا أزعم أن الحالة آنذاك كانت سمنا على عسل، ولكن لم تكن هناك تلك الضغائن التي نمت وترعرعت بفضل المخابرات العسكرية!
حكم العساكر هو من حرم المسيحيين من المناصب العليا في الدولة المصرية، يستوي في ذلك المناصب المدنية، والرتب العسكرية ... المسيحيون ممنوعون من خوض التدرج الطبيعي لأي موقع ... والفتن تصنعها أجهزة التخابر صناعة منزلة متقنة ... وما تفجير كنيسة القديسين عنا ببعيد !
قس على ذلك تفريق المصريين طبقيا بالوقيعة بين الغني والفقير، وجغرافيا بالوقيعة بين أهل سيناء والنوبة وبقية المصريين، وفكريا بتشويه سائر الأفكار والاتجاهات السياسية (حسب درجة قوتها في توقيتات معينة) ... الخلاصة أن هذه السلطة لا تدخر جهدا في تفتيت مكونات المجتمع المصري لكي تتمكن من التحكم فيه.
* * *
ما زال السؤال قائما ... هل يمكن توحيد المصريين؟
الإجابة واضحة ... إذا كان توحيد أوروبا بعد أكثر من خمسين مليون قتيل ممكنا، ورغم كل الخلافات والاختلافات الدينية والمذهبية والتاريخية والجغرافية ... فكيف لا يمكن توحيد المصريين رغم كل تلك العوامل المشتركة !
ما المشكلة إذن؟
المشكلة أننا محكومون بمجموعة من العملاء ... زوالهم وسقوطهم يكون بتوحد المصريين ... وهو ما حدث للمخلوع مبارك ... لقد سقط بعد ثلاثين عاما في السلطة حين توحد الناس – بشكل فطري - لمدة أسبوعين!
المشكلة أن هناك من يصمم على التفكير بطريقة معاكسة لكل منطق ... فترى بعضا ممن يحسب زورا على الجماعة الوطنية يتصور حل المشكلة المصرية بإقصاء هذا وذاك من المشهد.
والحقيقة أن كل من يقصي الآخرين يعمل لصالح السلطة العسكرية عرف أم لم يعرف، شاء أم أبى (ليس معنى ذلك أن نقبل بيننا الأفاعي التي تعمل لحساب النظام العسكري المستبد).
لقد حاول البعض أن يأخذ مصر إلى اتجاهه هو، وأن يعادي بقية الاتجاهات، وفي سبيل ذلك استعان بالدبابة، ثم دارت الأيام وحاول آخرون أن ينتقموا ممن فعل ذلك فيهم بأن يستعينوا بالدبابة نفسها ... وفي النهاية سحقت الدبابة الجميع ... ولكنهم رغم كل ذلك ما زالوا يتصارعون وهم تحت جنازير الدبابات ... من الذي أخطأ أولا؟ ومن باع من؟ ومن تسبب في قتلى أكثر؟
الأمل في جيل جديد يتعلم اليوم بثمن باهظ تكلفة الفرقة، ويتعلم بهندسة عكسية كيف يصنع النصر ... حين شاهد وعاش مرارة الهزيمة !
موقع الكتروني : www.arahman.net
بريد الكتروني : [email protected]
أضف تعليقك