لو وجهت سؤالاً وطلبت من الجميع أن يصمت قليلًا ثم يغمض عينيه ويسرح بخياله ويستحضر كل مقومات الجمال، التي عرفها وفهمها وطاف معها خياله في ربوعها يستقي ما استطاب له منها ، ويستنشق منها العبير الذي يبعث الراحة والطمأنينة والسعادة في حنايا قلبه ونفسه.
مستغرقًا في بساتين الجمال... ثم أخذ يُجيب عن هذا السؤال...
ما هي مدينة الجمال في مخيلتك ؟
وهنا نتنفس الصعداء ، وتتسارع معاني الجمال في نفوسنا وتتزاحم ؛ طمعًا في الخروج من حيز صدورنا وعقولنا الضيق إلي باحات التعبير الرحبة لتزدهر تلك المعاني ، وتجود نفوسنا علي ألسنتنا وأقلامنا بأخصب الكلمات فكلنا يستعد لتكون مدينته التي اختارها للإجابة هي أجمل المدائن.
ودعوني أقتبس من عقولكم وقلوبكم بعض الإجابات التي أسمع صداها يتردد في كل العقول.
فالذي عاش في مدينة من المدن يراها هي الأروع وهي الأجمل ، فبحرها لا ماء بعده ولا نسيم ولا عبق ، وهواؤها هو الشفاء ، وشمس أصيلها حينما تتمدد وتترامي علي صفحة البحر الفضية فتستحيل سبيكة من ذهب تحتاج إن أردت تقدير حجمها أن تستعين بكل موازين الكون فلا شيء يفوق وزنها في نفسه غيرها ؛ فهي مدينة المدائن ، وهي ذكريات طفولته ، ويداه كانت لا تبرح يد أمه في هذا المكان رهبة من هذا البناء الشاهق الذي يطوف خياله حينما يحاول أن يستكشف بخياله ما الذي يرقد خلف هذه الأسوار ومن ذا الذي يختبئ خلف تلكم الأعمدة الواقفة في تلكم الشرفة بتيجان العاج الذي يزين رؤوسها ، ويدور مع عيني ويتشكل أمامي كما يشاء خيالي وكما أشاء.
فمرة أراه قمرًا يبتسم ، ومرة أري فيه وجه شقيقتي ومرة أري فيه وجه هذا البائع عابس الوجه كلما ذهبنا لنشتري منه شيئًا وانصرفنا دونما شراء ، ومرة أراه وجه تلكم الجنية التي كانت تصاحب جدي في حواديته ، ومرة ومرة ومرة حتي كبرنا ولم يزل هذا البناء الشاهق في أطراف المدينة كما هو كما تركناه صغارً شاهدًا أننا تشكلنا هنا، خلايانا من هذا التراب ، خلجات قلوبنا من احتضان ضباب البحر ونسيمه لجدران المنازل تكونت ، من الأصوات المختلطة في سوق الخضار التي تطل عليه نوافذنا تكونت لهجاتنا ، وضحكاتنا تتشابه إلي حد كبير حتي يصعب التميز بينها وكأنها توائم متماثلة خُلقت أجنة في مشيمة واحده ، فلا يميز الفرق بين ضحكاتنا إلا القليل.
مدينتنا هي الأجمل فبحرها ، تشد إليه الرحال من كل البقاع في موسم لا يخطئ موعده.، ولا أثرت عليه أيام النسيء .
ولكن مدينتي هي الأجمل ، هذه الصغيرة الرابضة في وسط الدلتا وذراعيها مفتوحة ممتدة لتستقبل كل العائدين إليها من أبنائها الذين طافوا الدنيا فلم يجدوا خدودًا أو حدودًا كخدودها وحدودها ، وذراعها المفرودة باتساع ما بين فرعي النيل حتى لا يساور أحدهم شكًا أنه هاهنا بلا مكان ؛ مكانك هنا بين ذراعيها الرحيبة .
رائحة البيوت تعبق نفوسنا ونضع منها خلف أذنينا وفي الجزء النابض من فوق صدورنا والتقاء أعناقنا لينشرها النبض في كل أوصالنا وخلايانا لتصبح رائحتنا زكية كرائحة البيوت.
صغيرة مدينتي ولكنها في عيوننا كل الوطن ، رائحة الليل وما يتسرب إليه من الحقول البعيدة من شذيً يختلط برائحة تلك الأشجار المتناثرة في الشوارع وبعض الرياحين التي تملئ النوافذ يجعل هذه الأماكن وكأنها قد استعارت هذا الأريج من كفوف حورية هبطت إلينا ثم استدارت عائدة إلي السماء .
لا أري في الكون مدينة كمدينتي ، فليلها وأضواؤها وهواها ، ودروبها كم كتب الشعراء فيها قصائد ، حين تسير في دروبها العتيقة تري التاريخ علي جوانبها يناديك أن تعالي فجموع المماليك يشحذون سيوفهم لملاقاة الفرنجة ، وبعد قليل سيخرج المحمل إلي الحجاز حيث مكة ، والطعام علي ظهور الإبل سيرحل من هنا ليستقر في التكايا ، فلا يؤمن من بات شبعانًا وجاره يعاني المخمصة ، وسيمر من تلك الزاوية جثمان السلطان الذي قضي في مرج دابق ، وننعطف في دروبها فنسمع جنود عمرو في فسطاطه ، وجموع القبط حولهم يترنمون بأناشيد العدل الذي عاد مع جموع الجيوش القادمة من المدينة ، وما هذا الذي يمسكه بيده ؛ هذا الفارس المغوار ؟ إنه ليس بفارس بل إنه طالب للأزهر قد وفد ولكن هيئته مهابة كهيئة الفرسان هو الذي لروح كليبر قد حصد ، اصبر ولا تخبره بأنه قد ضاعت حلب.
نعم هذا هو التحرير ، وتلك دروبه ، ازدانت بجموع الوافدين إليه مدينتي وتحررت .
وللجمال بقية..
أضف تعليقك