• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

«إن تاريخنا – مهما كان زاهراً – لا يُغني عنّا من الآتي شيئاً، وإن الفخر بالرِّمَم البالية والأيام الخالية، لايردّ عزاً ولا يرجع مجداً».

هكذا أطلقها الأديب علي الطنطاوي، يوقظ بها المستغرقين في الهروب من معالجة الواقع، والاختباء بين سطور التاريخ، والاستدفاء بصفحات المجد التليد، فإنما الوقوف عند الماضي يكون للاعتبار والاستفادة من التجارب.

هذه النظرة السطحية للتاريخ كانت حاضرة بقوة في جولات الترشُّح لاختيار منصب مدير عام اليونسكو، التي تصدَّرَ المُرشح القطري أربعا منها على حساب الفرنسي والمصري، قبل أن تُحسم الجولة الخامسة الأمر، وتفوز مُرشحة فرنسا بالمنصب.

فما إن ظهرت نتيجة الجولة الأولى لصالح القطري، حتى بدأ الإعلام المصري في الصراخ، اعتراضا على تفوق دولة صغيرة بحجم قطر، لا تتمتع بإرثٍ تاريخي مثل مصر وفرنسا. حضارة سبعة آلاف عام، رآها إعلاميو مصر كفيلة بالتغاضي عن الحاضر، والواقع بالغ السوء الذي وصلت إليه أرض الكنانة على يد النظام الانقلابي، فتدفقت الاتهامات لدولة قطر بأنها دولة بلا ثقافة وبلا مثقفين، وأن مُرشحها مدعوم من الكيان الإسرائيلي.

ووجّه الإعلاميون المصريون الانتقادات للأصوات التي رشَّحت مندوب دولة داعمة للإرهاب، على حد وصفهم، وكأنَّ دول العالم تحولت بأسرها إلى مُرتشِين يملأون جيوبهم بالريال القطري. ويعلو الصراخ عندما يتطرق أحد الإعلاميين المصريين إلى بلده «بلد الأهرامات وأبو الهول» وإلى فرنسا «بلد المتاحف والآثار والمفكرين والعظماء، بلد النور والثقافة والتحديث والطباعة، بلد نابليون والفلاسفة»، مبديا دهشته أن تسبقهما قطر، التي فازت قبلها باستضافة كأس العالم بعد أربعة أعوام. ألَا يُدرك إعلاميو مصر، لماذا خذلتهم حضارة سبعة آلاف عام في اليونسكو ولم تشفع لهم في الفوز بالمنصب؟

خذلتهم لأن الواقع المرير للثقافة المصرية لا يخفى على أحد سوى المصريين، الذين يقوم النظام بتخديرهم وإلهائهم عن النظر إلى مآسيهم، عبر سحبهم إلى أمجاد الماضي، فأصبح الشعب كما يقول الرافعي «تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها». الأمجاد الغابرة لن تُعمي الأبصار عن النظر إلى نسبة الأمية الأبجدية في مصر، التي بلغت 32% في أكثر التقديرات تفاؤلا، و 42% في تقديرات أخرى، وفقا لكلام وزير الثقافة المصري، الذي أكد على أن الأمية الثقافية بدورها بلغت حدا مخيفا.

كيف تفوز مصر بهذا المنصب بعد أن أُغلقت المكتبات، ولوحقت النخب الثقافية، وتم تجويع الشعب، فباتت شريحة واسعة منه تُعْرض عن تعليم الأبناء نظرا للظروف المعيشية الصعبة؟

كيف تفوز مصر، وجزء كبير من آثارها التي تعبر عن ثقافتها، يتم تهريبه إلى الخارج، وعرْضه في متاحف الشرق والغرب؟

كيف تفوز بهذا المقعد الدولي الثقافي وحكومتها لا تكفُّ عن حجب المواقع الإلكترونية رغبة في عزل المصريين وتطويقهم ثقافيا؟ ثم كيف تفوز مصر وقد احتلت المركز 139 عالميا (أي قبل الأخير) في تقرير جودة التعليم؟ وليس في ما أقول تنقيصا لأرض الكنانة، التي كانت منارة للعلم، فإنما وقعت تلك البلاد ضحية لأنظمة فاشية أهدرت قوتها الناعمة، وأبعدت مصر عن التنافس الثقافي. وفي المقابل، أعرض الإعلام المصري عن مقومات الدولة القطرية لاستحقاق المنصب، وتجَاهلَ السيرة الذاتية للمرشح القطري التي تؤهله لإدارة اليونسكو، فهو خريج كلية دار العلوم في مصر، وحاصل على الماجستير في جامعة السوربون، والدكتوراه في جامعة ستوني بروك الأمريكية، وتولى وزارة الثقافة القطرية، وعمل مندوبا لها في الأمم المتحدة، ونائبا لرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسفيرا لعدد من الدول العربية والأجنبية، إضافة إلى إجادته لعدد من اللغات العالمية.

وأما قطر، الدولة الناشئة التي لا تمتلك مِعشار الإرث التاريخي لمصر، فهي تنظر إلى صناعة اليوم والغد، وبمثل هذا يُصنع التاريخ وتُقام الحضارات، فقد صُنفت الأولى عربيا، والرابعة عالميا في تقرير جودة التعليم، ولديها أدنى نسبة من الأمية في العالم العربي، وسُجِّلت لها جهود قوية في مجال التعليم بالعالم، ومنه المشروع العالمي الذي تبنته الشيخة موزة «علِّم طفلا»، الذي كان الهدف الرئيس منه تعليم الأطفال الذين حُرموا من تلقّي التعليم في كل دول العالم، وتمَّ بمشاركة منظمات عالمية كالأمم المتحدة، والأمم المتحدة للطفولة، واليونسكو واليونسيف، وغيرها، إضافة إلى مشاركة العديد من خبراء التعليم في العالم.

ولست أُفاضِل هنا بين شقيقتين كلتاهما في القلب، ولكن ردّة الفعل للإعلام المصري كانت بالغة السوء، فلم يكفهم الترنُّم بالماضي وتجاهل الواقع المرّ، لكنهم مع ذلك حوّلوا هذا المحفل الدولي لميدان صراع ونزال، على خلفية الأزمة السياسية الأخيرة، وصل إلى حد تصريح بعض المسؤولين المصريين بدعم المرشحة الفرنسية ضد المرشح القطري.

فأين رابطة الإسلام؟ وأين رابطة العروبة؟ لماذا هذا العمى عن حقيقة السياسة، ألم تكن حركة حماس بالأمس القريب جماعة إرهابية، ها هي قد تحوّلت بين عشيِّة وضُحاها لدى الإعلام المصري إلى عنصر مهم وحيوي في المعادلة الفلسطينية يجب احترامه والتعامل معه ، وفتحت القاهرة أبوابها للقاء ممثلي الحركة.

إذن، فالخلافات السياسية ينبغي عدم التعامل معها على أنها نهاية المطاف، يجب ترك مساحة مناسبة للرجوع وتغيير المواقف، فكيف سيُمحى من ذاكرة التاريخ أن أحد أعضاء الدبلوماسية المصرية هتف عندما أُعلن فوز المُرشحة الفرنسية دون المُرشّح القطري؟

لن يُمحى ذلك من ذاكرة المجتمعات، كما أنه لن يُمحى من ذاكرتها، ردّ الفعل العكسي من المرشح القطري، الذي قابل ذلك الهتاف بتصريحه في مقابلة تلفزيونية: «سمعت ما قاله الدبلوماسي المصري، وأنا أقول: تحيا مصر، وتحيا قطر، وتحيا كل الدول العربية، هذا التصرف لا نقيس عليه، نحن نرى الأمر بمنطق التنافس الشريف، والشعوب العربية تظلّ تحب بعضها، السياسة يختلف فيها الساسَة، لكن يجب على الشعوب العربية أن لا تقع في فخ كراهية بعضها، لا نستغنى عن بعضنا بعضا».

أضف تعليقك