"ذكرونا بالذي مضى"؛ فحملة إعادة ترشيح عبد الفتاح السيسي، ذكرتنا بحملة ترشيح جمال مبارك، فما أشبه الليلة بالبارحة!
فقبل ثورة يناير، كانت القوى الوطنية قد أنهكت بعد مد وجزر، وحراك بدأ في الضعف، نتج عنه أن أصواتاً داخل الحركة الوطنية للتغيير "كفاية"، ارتفعت بمطلب ترشيح "جمال مبارك"، وكانت حجتها، هي لأنه مدني، والدفع به مرشحاً رئاسيا سينهي مرحلة حكم العسكر، وباعتباره الخيار المناسب لهذه المرحلة، وهنا انطلقت حملة الضغط على جمال مبارك حتى يترشح بانتهاء ولاية والده في سبتمبر 2011، وتزعم الحملة أحد الأشخاص الذي كانوا يشاركون في المظاهرات، التي تدعو لرفض التمديد والتوريث، قبل أن نكتشف أنه عامل بسيط بهيئة النقل العام، وأنه عضو في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي!
وانتشرت استمارات جمع التوقيعات، وقام بعض رجال الاعمال، الذي كانوا يعتبرون الحملة وثيقة الصلة بجمال مبارك، بتقديم الدعم لها، وإلى الآن لم يُفصح عن مدى ارتباطها المباشر بنجل الرئيس المخلوع، لكن المؤكد أنه خطوة انتهازية ممن قاموا عليها، وقد رعتها أجهزة الأمن، لأن الحملة وقد تمددت في محافظات مصر، ارتكبت أعمالاً تضعها تحت طائلة القانون، فيما يختص بجمع التبرعات، وفرض الإتاوات، وقد تجاهل الأمن مخالفاتها. وتحرك أعضاء الحملة يسرحون ويمرحون في طول مصر وعرضها، إذا تشكلت في بعض المحافظات والقرى لجاناً فرعية لجمع التوقيعات.
وكان عناصر الحملة يرددون، أنهم ينفقون عليها من مالهم الخاص، حباً منهم للوطن، وإيمانا منهم بأن جمال مبارك هو وحد البديل الأفضل لأبيه، وأنه القادر على إنقاذ الوطن!
ولأن القوى الوطنية كانت قد استشعرت العجز في إسقاط مبارك، فلم يجد البعض مانعاً من هذا البديل، ووقع سعد الدين إبراهيم على "الاستمارة"، وبعد أن تحول الأمر إلى فضيحة له، قال إن توقيعه لتأكيد حق "نجل الرئيس" في الترشح، وليس تأييدا لترشيحه، وكان هنا يتلاعب بالألفاظ، فكتبت مقالي: "سعد الدين إبراهيم الذي يرى حسناً ما ليس بالحسن"، وقلت إن المذكور يدرك ماذا يفعل، فالأمر ليس أمر حقوق يحتاج تأكيدها إلى استمارات لجمع التوقيعات عليها، فهذا حق منصوص عليه في الدستور لجمال مبارك ولغيره، ضمن الشروط الخاصة بشغل هذا الموقع.
اللافت أن ثورة يناير قامت، بينما حملة الضغط على جمال مبارك في أوجها، واللافت أيضاً، أنه بقيام الثورة، فإذا بالحملة وكأنها "فص ملح وذاب"، فلم أشاهد زعيمها أبداً، وكانت منطقة وسط القاهرة هي المكان الذي يتواجد فيها يومياً، سواء على مقاهيها أو في نقابتي المحامين والصحفيين، فقد اختفى باختفاء الشرطة، ولم يعد بعودتها، فبعودتها ظهرت "استمارة عبد الفتاح السيسي"، نجل مبارك بالتبني!
فخلال الأيام القليلة الماضية، قرأنا عن "استمارة" توزع، وتحمل عنوان "علشان يبنيها"، وفي التفسير الخاص بها قيل إنها "طلب ترشيح السيد الرئيس عبد الفتاح سعيد حسن خليل السيسي"، والمستهدف جمع التوقيعات عليها بهدف ترشيح عبد الفتاح السيسي لدورة جديدة!
وقد كان المقرر أن تكون هذه الاستمارة بهدف تعديل الدستور، لتمكين المذكور من الترشح لأكثر من دورة، على أن تمد الدورة الحالية لعامين آخرين، لكن هذا الأمر تم رفضه أمريكيا، ليكون التساؤل المشروع، عن الأسباب الداعية لجمع توقيعات، وتحرير استمارة، وانبعاث حملة طلب ترشيح: لمن سيقدم الطلب والتوقيعات؟.. هل للسيسي نفسه؟.. وهل وصل هذه اللجنة ما يفيد أنه قد يتراجع عن الترشح لدورة ثانية؟.. وهو الأمر الذي لا توجد إشارات تؤكده، فالسيسي يتحدث وكأنه سيحكم مصر لآخر يوم من عمره. ليصبح المنطقي أن هذا الطلب يقدم للدوائر الدولية والإقليمية، بأن السيسي يحظى بقبول شعبي يتمثل في هذه التوقيعات، التي من المقرر أن يكون الرقم المعلن غير الرقم الحقيقي، بعد الخبرة العريقة في تزوير الأرقام من واقع تجربة حركة تمرد واستمارتها الشهيرة التي طالبت بالإطاحة بالرئيس المنتخب، وقيل أن أعداد الموقعين تجاوزت العشرين مليون مصري، ولو أقسموا على الماء فتجمد، فلن نصدقهم.
وإذا كانت حملة جمال مبارك، قام بها من يمثلون الانتهازية السياسية، وعلاقتهم بالأجهزة الأمنية تحتاج إلى جهد لإثباتها، فإن علاقة حملة السيسي بالسلطة لا يحتاج إثباتها إلى أي جهد، فإحدى الصحف المملوكة حديثاً لأهل الحكم أعلنت قياداتها عن استقبال الاستمارة لجمع التوقيع عليها داخل المؤسسة الصحفية، وهو تبن للحملة لم يحدث بالنسبة لاستمارة جمال مبارك!
لقد ذكرت الزميلة "أمال كمال" على صفحتها على "الفيسبوك" أن فتاة استوقفتها لتطلب منها تعبئة بياناتها والتوقيع على استمارة "حملة علشان تبنيها"، فلما سألت الزميلة الفتاة عن هويتها؟ قالت إنها مكلفة من قبل أعضاء في البرلمان لهذه المهمة، وهو ما يفسر أن من يوزعون الاستمارات يقومون بمهمة وظيفية، يتقاضون عليها أجرا، وفي ذات السياق فإن أحزاباً سياسية تقوم بعملية جمع التوقيعات، وهي أحزاب مرتبطة بالسلطة، بل إنها صنيعة الأجهزة الأمنية.
والسيسي لم يمانع في الترشح، وليس أمامه خيار سوى أن يترشح ليستمر في موقعه، وعلى قاعدة "قاتل أو مقتول"، فما هي الأسباب وراء هذه الحملة؟
هل هناك حالة تململ في الدوائر الإقليمية من ترشح عبد الفتاح السيسي لدورة ثانية، وهل البيت الأبيض لم يبد موافقته إلى الآن على ذلك، فكانت الحملة لإرسال رسالة مفادها، أن السيسي مطلب شعبي؟
السعودية جاءها ما يشغلها، فولي العهد مشغول بعملية تنصيبه ملكاً، ومن الواضح أن الموافقة الأمريكية لم تصدر إلى الآن، ليصبح ملف الانقلاب في مصر إقليمياً هو قرار إماراتي، ولا تبدو الإمارات إلى الآن متحمسة له، فلا يوجد أمل في أن يحقق حاكم القاهرة نهوضاً اقتصادياً يمكنه من أن يتحمل مسؤولية نفسه، بدون الحاجة إلى الخزانة الإماراتية التي ليس فيها جديداً لإشباع الجشع السيساوي، ثم إن السيسي يلاعبهم في تسليم المتفق عليه من أراض، ومحمد بن زايد دخل مصر مستثمراً وليس منفقا من زكاة الركاز!
والإمارات بيدها ورقة مهمة، تتمثل في الفريق "أحمد شفيق"، وكل الدلائل تشير إلى أن زيارة السيسي الأخيرة فشلت، سواء في حصوله على وعد كامل بطي صفحة شفيق، أو في تقديم المزيد من الدعم المالي له!
إلى الآن لم يعط البيت الأبيض الضوء الأخضر للسيسي للترشح لدورة ثانية، فهناك أزمة مكتومة سببها شراء السيسي صفقة أسلحة من كوريا الشمالية، ظنا منه أنه يملك اللياقة للعب على كل "الحبال"!
وبالتالي يكون الهدف من الحملة، إعادة تقديم السيسي بأنه "الرئيس المحبوب"، وأن هناك ضغطاً شعبياً لإعادة ترشيحه، وليس من الحصافة أن تعاديه الدوائر الدولية أو الإقليمية فلا يكون أمامها إلا أن تعطي موافقتها له للترشح لدورة ثانية ولو على مضض!
الغريب هو عنوان هذه الحملة "حملة علشان تبنيها"، مع أن المستهدف بها هو مقاول "هدد" وليس مقاول بناء.
أضف تعليقك