في شهر أكتوبر من العام 2014 فقد العالم مثقفا مسلما عالميا، هو الدكتور علي المزروعي. وهو مفكر سياسي كبير ومؤرخ عظيم للثقافة الإسلامية والأفريقية. ولد المزروعي في مومباسا في كينيا من أسرة إسلامية عريقة، ترجع جذورها إلى سلطنة عمان، وكان أبوه أمين المزروعي فقيهَ المسلمين وكبيرَ قضاتهم في بلده كينيا.
تخرج علي المزروعي من جامعات غربية عريقة هي جامعة مانشستر، وجامعة كولومبيا، وجامعة أوكسفورد، ثم درَّس بجامعة مكريري في أوغندا، وفي عدد من الجامعات الأميركية في ولايتي ميشيغان ونيويورك، وألف ستة وعشرين كتابا، وعددا وافرا من المقالات عن الثقافة الإفريقية والثقافة الإسلامية، واشتهر كثيرا بالوثائقي المعنون "الأفارقة" الذي أعده لهيئة الإذاعة البريطانية.
بذل علي المزروعي جهدا علميا رائعا في تجريد الاستعمار والعنصرية من أي شرعية أخلاقية، وكان له جهد قيادي مشهود في مؤسسات إسلامية أميركية، منها: "المجلس الإسلامي الأميركي" و"مركز دراسات الإسلام والديمقراطية". وقد تشرفتُ بلقاء الدكتور المزروعي -رحمه الله- في ختام العام 1999، خلال الشهور الأولى من قدومي إلى الولايات المتحدة طالبا، حين حضرتُ محاضرة له بجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية التي كان يترأسها يوم ذاك الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله. فأدركتُ أني أمام عملاق من عمالقة الفكر والثقافة، جمع إلى سعة العلم عزة النفس وحفظ الكرامة.
تذكرتُ المرحوم البحَّاثة علي المزروعي هذه الأيام، وأنا أتابع محنة الأستاذ الدكتور طارق رمضان، المفكر الإسلامي المعروف، أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في جامعة أوكسفورد، وفي جامعة حمد بن خليفة في قطر. فقد تعرَّض طارق رمضان هذه الأيام لحملة تشويه شنيعة في فرنسا، تصل إلى محاولة الاغتيال المعنوي. حيث رفعت ضده الكاتبة الفرنسية من أصل جزائري-تونسي "هندة عياري" دعوى بالاغتصاب، بتشجيع ودعم من اللوبي الصهيوني في فرنسا، وترويجٍ من كبريات الصحف الفرنسية وصحف النظام الانقلابي في مصر، ثم من قناة "العربية" التي ركزت في تغطيتها للخبر على كون الدكتور طارق رمضان حفيد الإمام حسن البنا، ضمن حرب مموليها ضد القوى الإسلامية المناهضة للاستبداد والفساد.
لقد خصص علي المزروعي فصلا من كتابه "القوى الثقافية في السياسة العالمية" لمناقشة رواية "الآيات الشيطانية" سيئة الصيت التي كتبها الروائي الهندي البريطاني سلمان رشدي. وصاغ المزروعي مصطلحا دقيقا للتعبير عن فعل سلمان رشدي ودوافعه، وهو مصطلح "الخيانة الثقافية." وربما لم يصُغْ كاتب آخر وصفاً يصدُق على سلمان رشدي أبلغ من هذا الوصف، فرشدي لم يكن كاتبا يحترف الفن الروائي من أجل الفن، بل كان متاجرا بكرامة القلم، منتهكا لأعراض الكلمات. وهو ما عبر عنه الدكتور المزروعي بالطموحات "الارتزاقية" لدى سلمان رشدي، وبهذه الحاسَّة الارتزاقية فهم سلمان رشدي أن أخصر طريق للثراء والشهرة في البيئة الثقافية الغربية هي الطعن في المقدسات الإسلامية، والتشهير بالمسلمين واستفزازهم، فهي بيئة تحتفي بكل قلم ساقط من المسلمين، وتتلقف كل خائن لدين الإسلام وللأمة الإسلامية. وهذا أدرك سلمان رشدي أن أي شخص يطعن في الإسلام ورجالاته سيجد له من القوى العنصرية والصهيونية في الغرب من يحتفي به، ويوفر له المال والجاه، ومنابر القول، ووسائل الفعل. فما الذي يمنع سلمان رشدي من الصعود عبر السقوط، أليس "لكل ساقط لاقط" كما يقال؟
لم يكتف رشدي بالتعبيرات العنصرية ضد العرب في روايته الأولى المعنونة بـ"العار"! فانتقل إلى الهجوم على الإسلام ذاته. وسرعان ما تحول جراء ذلك من كاتب مغمور إلى وجه مشهور، حين كتب آياته الشيطانية فــ"احتُفيَ به، ومُدح... وموَّله أعداءٌ صرحاءُ ونُقَّادٌ معادون للإسلام" كما يقول المزروعي بحق. وقد سمَّى المزروعي الأمور بمسمياتها الدقيقة حين وصف هذا المسلك بــ"العُهر" الثقافي والأدبي، فكتب: "إن بعض الكتاب يمارسون العهر، وقد اتُّهم رشدي نفسُه بذلك، إذ أثرى على حساب كرامة الآخرين".
خلفية هندة وعلاقاتها السياسية تشير إلى أمور مثيرة للريبة، وعلى أن اتهامها للدكتور طارق لا يعدو أن يكون فصلا جديدا من حرب الصهاينة في الغرب على كل صوت إسلامي
وعلى خطى سلمان رشدي سارت آيان هيرشي، تلك الفتاة الصومالية، التي انتهى بها المطاف عضوا في البرلمان الهولندي، وصوتا مسموعا في أعرق الأكاديميات الغربية بما فيها جامعة هارفارد. وقد وجدت هيرشي لها من القوى العنصرية والصهيونية في الغرب من يفتحون لها الصدور، وينصبون لها المنابر، لأنها اتخذت من التشهير بالإسلام مهنة وسُلَّماً إلى الصعود، وقارنته بالفاشية والنازية، وأشادت بإسرائيل، فوصفتها بأنها "ديمقراطية ليبرالية" ومأوىً للوافدين من كل العالم!
توجد أوجه شبه عديدة بين سلمان رشدي وآيان هيرشي وهندة عياري، فكل منهم ينتمي إلى أسرة مسلمة مهاجرة إلى الغرب، ولكل منهم طموحات "ارتزاقية" -بتعبير علي المزروعي- وارتباط بجماعات عنصرية وصهيونية غربية تحقد على الإسلام ديناً، وعلى المسلمين جماعةً بشريةً، وقد وجد كل منهم في هذا الارتباط وسيلة للثراء والشهرة والصعود من خلال "الخيانة الثقافية" لدينه الأصلي وأهله الأقربين.
وقد نشرت هندة من قبل رواية ركيكة باللغة الفرنسية عنوانها: "اخترتُ أن أكون حرة" -هي المكافئ الأدبي لرواية "الآيات الشيطانية" ولسيرة آيان هيري الذاتية- ادَّعت فيها أن شخصا خياليا اسمه "الزبير" اغتصبها في فندق. ثم عادت في الأيام الماضية لتزعم أن ذلك لم يكن سوى الدكتور طارق رمضان! وأن عملية الاغتصاب حدثت منذ خمس سنين، أمضتها صامتة عن الموضوع! وكأنها تعيش في دولة زين العابدين بن علي البوليسية، لا في الجمهورية الفرنسة، حيث حرية التعبير والتقاضي مكفولة للجميع.
لكن إطلالة على خلفية هندة وعلاقاتها السياسية تشير إلى أمور مثيرة للريبة حقا، وتدل على عدم نزاهة هندة عياري، وعلى أن اتهامها للدكتور طارق رمضان لا يعدو أن يكون فصلا جديدا -وقَذِراً- من حرب الصهاينة في الغرب على كل صوت إسلامي يكسب المصداقية العالمية، ويكشف جرائم الصهيونية. ومن هذه الأمور:
أولا: أن هندة عياري بدأت حياتها "سلفية متشددة" كما تقول، وكانت ترتدي النقاب، ثم تحولت فجأة ناشطة علمانية، تعادي كل ما له صلة بالإسلام، وتحرِّض المسؤولين الفرنسيين عليه. وهذا التحول المثير والمريب يدل على عدم النزاهة الفكرية، وعلى هشاشة المواقف الأخلاقية.
ثانيا: أن موقع (أوربا-إسرائيل) الفرنسي الصهيوني كان يروِّج لرواية هندة عياري "اخترتُ أن أكون حرة" على صفحاته إلى عهد قريب، وكان مكتوبا في الموقع أن كل نسخة تباع من الرواية فستكون خمسة بالمائة من ثمنها للموقع. ولم يحذف الموقع رابط الترويج للرواية إلا منذ بضعة أيام خشية افتضاح علاقته بهندة.
ثالثا: أن محامي هندة عياري، جوناس حداد، الذي رفعت الدعوى عبره ضد الدكتور طارق رمضان، معروف بصلاته الوثيقة مع جماعة الضغط الصهيونية اليمينية المسماة "وجه إسرائيل"، إحدى الجماعات الصهيونية الفرنسية، ويترأسها اليهودي الفرنسي ميشيل أزولاي.
رابعا: أن حملة هندة عياري -ومن ورائها اللوبي الصهيوني الفرنسي والأوربي- جاءت في توقيت بعيد عن الصدفة. فنحن نعيش هذا العام الذكرى الخمسين لهزيمة 1967، والذكرى المائة لوعد بلفور. وقد أعلنت فرنسا العام القادم 2018 "عام إسرائيل" احتفاءً بالذكرى السبعين لتأسيس الدولة اليهودية!
وتمر المنطقة العربية اليوم بظروف حرجة، ظاهرها خلاف بسيط بين دول خليجية وعربية، وباطنها اصطفاف إقليمي جديد تقع إسرائيل في القلب من أحد طرفيْه. وفي هذا السياق الاستقطابي المتفجر أصبحت شيطنة كل صوت للإسلام مناهض للاستبدادا، رافض لاحتلال فلسطين، كاشف لجرائم الصهونية، جزءا من الحرب الفكرية والنفسية، المصاحبة دائما للتحولات الاستراتيجية الكبرى.
الخيانة الثقافية لا تحاكمها دُور القضاء، وإنما أعماق الضمائر. وليس من ريب أن ضمائر المسلمين ستظل تلفظ كل من يمارس "الخيانة الثقافية"
إن ما فعلته الكاتبة هندة عياري ليس سوى تكرار لما فعله سلمان رشدي وإيان هيرشي من قبل. فهو "خيانة ثقافية" بتعبير الدكتور علي المرزوعي، وهي خيانة لا تقتصر عليهم -بكل أسف- ولا تنحصر داخل الفضاء الغربي، بل يوجد اليوم في قلب الفضاء العربي الإسلامي كتَّاب وإعلاميون يمارسون "الخيانة الثقافية" جهارا نهارا، وبتمويل ودعم من قادة السعودية والإمارات، خصوصا منذ اندلاع الأزمة الخليجية الحالية، وما صاحبها من إسفاف إعلامي وثقافي من طرف دول الحصار.
سينفضح كذب هندة عياري، كما انفضح كذب آيان هيرشي قبلها، فاضطرت للاستقالة من البرلمان الهولندي، بعد أن تبين أنها لم تأت إلى هولندا هاربة من الحرب الأهلية الصومالية -كما زعمتْ في طلبها اللجوء السياسي- بل جاءت طوعا بعد أن كانت تعيش في بحبوحة مع أبيها في كينيا بعيدا عن الحرب الصومالية.
ويستطيع الدكتور طارق رمضان أن يكسب قضية التشهير التي رفعها ضد هندة عياري بسهولة، إذا تعامل معه القضاء الفرنسي بنزاهة غير مشوبة بالتحيزات الدينية والسياسية. فكل من يعرف الدكتور طارق رمضان من قريب أو من بعيد يدرك أن اتهامها له بالاغتصاب مجرد إفكٍ محضٍ، وسعي إلى الاغتيال المعنوي.
لكن الخيانة الثقافية لا تحاكمها دُور القضاء، وإنما أعماق الضمائر. وليس من ريب أن ضمائر المسلمين ستظل تلفظ كل من يمارس "الخيانة الثقافية" و"العهر" الثقافي -بتعبير العبقري علي المزروعي. وكل ما يحتاجه المسلم في مواجهة الإفك هو أن لا يفقد الثقة في ذاته، وأن يظن بنفسه وبدينه وبإخوانه خيرا، طبقا للتوجيه القرآني: "لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ".
أضف تعليقك