حين لا يترك بنيامين نتنياهو أي فرصة دون التبشير بالتحالف مع الدول "السُّنيّة" ضد إيران، وبالعلاقات المتنامية مع بعض تلك الدول؛ فهو لا يُحرج الأخيرة فحسب (من يُحرج منها بالطبع)، بل يستثمر في هذا "الإنجاز" داخليا أيضا، وهو الذي يتعرض لاتهامات فساد متوالية تشمل حتى زوجته؛ فضلا عن مساعديه.
على أن الأهم من ذلك كله هو أن نتنياهو يضع نفسه وكيانه في قلب الحريق الراهن بالمنطقة، ويفسح المجال أمام أسئلة الدور الذي يمكن أن يلعبه في التطورات المقبلة، إن كانت سياسية عبر أذرعه في الوضع الدولي وخاصة في أميركا (وإلا ما معنى أن يتدخل دونالد ترمب فيما يجري بالسعودية وهو شأن داخلي محض، بل وعائلي أيضا؟)، أم عسكرية عبر احتمال شن حرب على حزب الله (على لبنانعمليا لأن الحزب ليس جيشا منفصلا عن الجغرافيا اللبنانية).
الذي لا شك فيه هو أن لنتنياهو أحلامه العريضة من هذا الذي يجري (الصراع الطائفي في المنطقة)، فهو يعوّل عليه وعلى وجود ترمب في البيت الأبيض، ويغازل بعض العرب من أجل تحقيق ما عجز الكيان عن تحقيقه بعد اتفاق أوسلو، وما عجز عن تحقيقه أيضا بعد الغزو الأميركي للعراق الذي رفع شعار "إعادة تشكيل المنطقة".
فهو هنا يرى فرصة لتركيع إيران عبر الابتزاز الأميركي، مع بيع ذلك للعرب لأخذ ما يريده منهم على صعيد القضية تحديدا، وليس على صعيد صراعهم مع الغالبية لأن استمرار هذا الصراع هو الأفضل بالنسبة إليه.
على أن "العتمة لا تأتي بالضرورة على قد يد الحرامي"، كما يقول المثل الشعبي؛ واحتمالات تحقق تلك الأحلام لا تبدو كبيرة، ليس فقط بسبب نتائج أي حرب جديدة يمكن أن يتورط فيها الكيان، وإمكانية الخروج منها ولو بخسارة جزئية أو عدم انتصار، بل أيضا لأن في فلسطين معادلة وخصوصية لا ينتبه إليها نتنياهو.
ويغريه أن فيها سلطة تتعاون معه بكل ما أوتيت من قوة لمنع أي انتفاضة جديدة، ومن ورائها وضع عربي سيلقي بكل ثقله لمنع ذلك، ولكن عندما تلوح في الأفق إمكانية تصفية القضية عبر حل إقليمي تحدثنا عنه مرارا (تكريس حكم ذاتي على ما يتركه الجدار الأمني من الضفة، مع تطبيع عربي واسع)؛ فإن الشعب الفلسطيني لن يسكت على ما يجري.
بل ستكون له كلمته التي إما أن يسبقها تصعيد لقوى المقاومة، أو يتبعها كما حدث في انتفاضة الأقصى نهاية سبتمبر/أيلول 2000، بعد فشل قمة كامب ديفد قبل ذلك بشهرين.
يعيدنا هذا الوضع البائس والمعقد إلى الأسئلة الأولى المشروعة عن المتسبب في هذا الحريق وما يمكن أن يفضي إليه، والذي يتمثل في التقاء قوى الثورة المضادة (عربيا) مع علي خامنئي على دفن أحلام الشعوب فيما عُرف بالربيع العربي، وتولي الأخير مهمة الإجهاز على تلك الأحلام عبر ضرب ثورة سوريا التي لو مرّت لكن مشهد المنطقة برمته مختلفا، بما في ذلك احتمالات فشل الانقلاب على الثورة المصرية.
لو انتصر الشعب السوري على الطاغية لسار الربيع العربي نحو محطات أخرى بأشكال متفاوتة، لكن أحلام خامنئي لم تكن متعلقة بالصراع مع المشروع الصهيوني، بقدر علاقتها بأحلام النفوذ والتوسع على أساس مذهبي، وعلى قاعدة استعادة ثارات التاريخ، وليس نصرة المظلومين كما يزعم.
فالشيعة في لبنان والعراق لم يكونوا مهددين بانتصار ثورة سوريا، بل كان بالإمكان أن يكون شعبها صديقا لإيران لو لم تقف أمام طموحه، الأمر الذي ينطبق على الشعب اليمني الذي انقلبت إيران على ثورته بالتعاون مع الطاغية الذي ثار الشعب ضده في ثورة بالغة الروعة، وكذلك العرب السنّة بالعراق لو لم يدفع خامنئي نوري المالكينحو إقصائهم بعد ذهابهم نحو العملية السياسية في 2010.
المصيبة الكبرى اليوم هي أن مشاعر الحشد المذهبي -على خلفية ما جرى ويجري في العراق وسوريا واليمن- ستضع الغالبية في المنطقة أمام سؤال حرج، في حال شنّ الصهاينة عدوانا على حزب الله في لبنان، لأن الصهاينة هم العدو الأكبر للأمة، لكن الحزب ومن ورائه إيران ولغوا في دماء أبنائها حتى الثمالة، وهم يلوّحون بمشروع مذهبي يمثل تهديدا تاريخيا لها؛ فأين سيقف أبناؤها في مواجهة من هذا النوع؟!
ونحن إذ لا نتردد في الوقوف ضد أي عدوان صهيوني، فإن الوضع سيكون إشكاليا إلى حد كبير بالنسبة لكثيرين، وتلك هي المصيبة التي ورّط فيها خامنئي الأمة بسبب أحلامه العبثية.
على أن ذلك لا ينسينا بحال مواقف الطرف الذي يواجه إيران، ليس حيال الربيع العربي فحسب؛ بل أيضا بتركه الورقة الفلسطينية لإيران بدل تبني قوى المقاومة، والانسجام مع مشاعر جماهير الأمة في الموقف منها، لاسيما أن الأخيرة -وفي مقدمتها "حماس"- كانت جاهزة لذلك.
فقد وقفت على الباب تنتظر كلمة طيبة فلم تجد سوى الخذلان، مما اضطرها للعودة إلى إيران من جديد، بعد ما يشبه القطيعة بسبب الموقف من ثورة سوريا، رغم خلافنا مع تطورات هذا الموقف على النحو الذي تابعناه مؤخرا.
على أن فشل أي عدوان صهيوني جديد على لبنان -في حال وقع- لن يعني تغيرا في مواقف غالبية الأمة من العدوان الإيراني، لأن المسألة ليست إما هذا أو ذاك، ويمكن للأمم أن تواجه عدوانين في آنٍ.
وسيستمر الصراع بأشكال مختلفة حتى يقتنع خامنئي بكلمة سواء مع العرب وتركيا، توقف هذا الحريق لصالح شعوب المنطقة بدل التدخلات الأجنبية (في ظل مخاطر لعبة تقاسم النفوذ بين أميركا وروسيا)، وعلى أمل التوحد ضد الكيان الصهيوني من جديد.
وهو كيان لن يتوقف الصراع ضده حتى يزول، وهو إلى زوال طال الزمان أم قصر، خلافا لإيران التي سينتهي الصراع معها حين تكف عن عدوانها، وتقبل بالحل المتوازن الذي يحفظ مصالح المحاور الثلاثة في المنطقة (العرب وتركيا وهي).
أضف تعليقك