يبدو أن الرئيس ترامب وحليفه الاسرائيلي نتانياهو ضحيتا قراءة خاطئة وسطحية للواقع العربي.
اغراهما الانقسام العربي وانشغال الرؤساء والملوك بصراعاتهم الداخلية ولعبة الاصطفاف ضد بعضهم البعض -بما يذكر بملوك الطوائف في الأندلس قبل سقوطها- لإطلاق أيديهما في ملفات المنطقة ومحاولة فرض سياسة الامر الواقع وتغيير المعطيات على الارض.
كما ان حالة الفراغ السياسي (نتيجة استفحال الأزمات الداخلية والصراعات البينية، ثم انسحاب الدول العربية الكبرى من المشهد وانشغالها بخديعة "صفقة القرن") قد حرضت الرئيس الامريكي ترامب على اتخاذ قرار لم يجرأ احد من الرؤساء الأمريكان عليه سابقا: نقل السفارة الى القدس، عاصمةً للدولة الصهيونية.
لم يكن هناك ما يزعج ترامب او يعكر صفو العلاقة بحليفه نتانياهو، بعد الصفقات المالية الضخمة وعقود التسلّح الهائلة التي أغدقتها عليه الرياض، وما تبع ذلك من اعادة ترتيب التحالفات وخطوط الصراع في المنطقة، بما يخدم الرؤية الأمريكية الصهيونية.
ما هو أنكى وأمر من ذلك ليس غياب القضية الفلسطينية والقدس من اجندة الحكومات العربية فحسب، بل اتجاه بعض الدول العربية وخاصة الخليجية منها، الى عقد تحالفات خفية ومعلنة مع اسرائيل، بذريعة "مواجهة الخطر الإيراني".
وكعادتها، لم تفوت اسرائيل الفرصة الذهبيية لتعميق هذا الخط، ضمن ما وسمته ب"حلف المعتدلين"، مع فتح قنوات للتنسيق الظاهر والخفي مع العديد من العواصم العربية.
وعلى الجهة الاخرى، انبرت جوقة الكتاب والمعلقين" الرسميين" العرب تروج لهذا المعسكر الجديد الممتد من بعض عواصم الخليج الى تل أبيب.
قبل ايام قليلة فقط، تداعى وزراء الخارجية العرب إلى اجتماع عاجل في القاهرة، وكانت النقطة الوحيدة على جدول الاعمال هي مواجهة الخطر الإيراني، بينما يلتهم الاستيطان الاسرائيلي الارض ويجري تهويد القدس على قدم وساق بتواطؤ كامل مع ادارة ترامب.
وفجأة، عاد الحديث عن "الأمن القومي العربي"، و"النظام العربي المشترك" بعد ان تلاشت هذه المفاهيم والمصطلحات من القاموس السياسي العربي لسنوات طويلة. وكان من الممكن اعتبار هذه الصحوة العربية المباغتة خطوة في الاتجاه الصحيح لو أنها نابعة من إرادة جدية لحماية الأمن العربي المشترك من التدخلات الخارجية واحداث الحد الأدنى من التوازن مع ايران او غيرها.
بيد ان ما نشهده فعلا هو تخريب ممنهج للأمن العربي وتسليمه للمشروع الامريكي الصهيوني بزعم درء التهديد الإيراني، وصل حد التحالف مع اللوبيات اليمينية والصهيونية في أمريكا تحت ستار مواجهة العدو الأوحد: ايران.
لذا، لم تتردد اسرائيل في إبراز ما كان متوار تحت الطاولة وخلف الأبواب المغلقة، والتشدق بانها باتت تقيم علاقات سياسية واستخباراتية عميقة مع دول عربية "معتدلة".
واضح ان معسكر "الاعتدال العربي" بات يقاتل على جبهتين مترابطتين: مقاومة شبح التغيير المرعب الذي جاء به الربيع العربي، عبر استهداف القوى السياسية السنية التي تعمل على التغيير الديمقراطي، ومواجهة النفوذ الإيراني المتمدد في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
الا ان التخبط الرسمي العربي وابرام التحالفات مع اسرائيل لن يزيد هذه الدول الخانعة الا هشاشة وضعفا وسيوسع من دائرة النفوذ الإيراني الذي انتزع لافتة مقاومة المشروع الصهيوني في المنطقة، من نظام رسمي عربي مترهل خانع.
من الجلي أن ترامب وحلفاءه العرب لا يجيدون قراءة ما يعتمل في الأعماق تحت السطح السياسي، بل لا يعيرون ذلك اهتماما يذكر، ولو فعلوا لتبدت لهم حالة الصحو الشعبي العربي والإسلامي في مواجهة مؤمراتهم ودسائسهم.
ثمة قوة حقيقية تتشكل في المنطقة اسمها الرأي العام العربي والإسلامي، تتجلى في مظاهر مناصرة القدس وفلسطين في الكثير من العواصم العربية والإسلامية اليوم. فمقابل الضعف الرسمي العربي نلمح تعاف ملموسا على مستوى الرأي العام الشعبي، وارتفاعا للوعي العام ساهمت في تغذيته تقنيات التواصل الحديثة، من فضائيات واعلام اجتماعي.
نستحضر هنا شعور اليأس الذي كان مخيما على النخب العربية من إمكانيات التغيير، وايقانها بموت وتكلس الشارع العربي، حتى باغتتها التحولات الفجئية السريعة التي عصفت بأرجاء من العالم العربي في 2011.
اليوم، يتكرر المشهد ذاته تقريبا. انخدع ترامب ونتنياهو بالجمود السياسي البادي على السطح وبتلهي القادة العرب بالاعيبهم وحساباتهم الصغيرة، لكنهم يفاجؤون بأن قضية فلسطين والقدس مازالت حية نابضة في وجدان العرب والمسلمين الذين شد هممهم وزاد من صلابتهم صوت تركيا المرتفع نصرة لمقدسات المسلمين و قضيتهم الأولى، مقابل التفكك الرسمي العربي المقيت.
ان عنصر التوازن الجديد في المعادلة ليس الجامعة العربية ولا حتى منظمة التعاون الاسلامي، بل صلابة الموقف الشعبي العربي والإسلامي، المسنود بمواقف صفوة من الدول الاسلامية الفاعلة والمؤثرة، من بينها تركيا وإيران والجزائر.
سيكتشف ترامب، انه ليس طليق اليدين ولا قادرا على فعل ما يحلو له، لا لقوة في الموقف العربي، بل لتشكل ما يمكن تسميته ب"قوة ردع الرأي العام العربي والإسلامي". وقد بدأت اولى خطوات تدحرج ترامب بتأجيل تنفيذ قرار نقل السفارة الامريكية للقدس لمدة ستة أشهر..
وسيضطر آجلا ام عاجلا الى سحب هذا القرار وتأخير تنفيذه الى اجل غير مسمى، كما فعل أسلافه من رؤساء أمريكا، الذين مضوا وبقيت القدس فلسطينية، عربية، إسلامية.
أضف تعليقك