لم يكن سرًا أن المشروع الصهيوني كان واضحًا منذ البداية، بل وكان العرب يعرفون أبعاده، ولكن العرب الآخرين لم يصدقوا أن تزرع إسرائيل بهذه البساطة في فلسطين، كما لم تصدق الدول العربية في الأمم المتحدة عام 1947 أن قرار التقسيم هو أول تنفيذ على الأرض للمشروع الذي يريد كل فلسطين وكل القدس، فعمدت إسرائيل والغرب عموما إلى تمكين إسرائيل من المنطقة، وبذلك ظن الرئيس ترامب أن صفقة القرن يمكن تنفيذها في الظروف المثالية التي أدخلت إسرائيل فيها المنطقة منذ ست سنوات، وعكست آمال الشعوب بالحرية إلى القضاء على الوجود العربي نفسه.
ولذلك، نعتبر قرار الرئيس ترامب كاشفا لحالة، ولمخطط إسرائيلي تقوم فيه بفرض الأمر الواقع، ثم تتجاهل القانون الذي وضعه المجتمع الدولي. فالمفارقة الأساسية هي أن المنطقة جاهزة، من وجهة نظر إسرائيل، لتنفيذ صفقة القرن، وفي القلب منها التهام فلسطين والقدس، بعد أن مهدت لذلك مع بعض الحكام العرب، وهم يعتقدون أن صداع الصراع مع إسرائيل يمكن أن ينتهي بتسوية إقليمية، وليس بالضرورة على أرض فلسطين.
كشف القرار أيضا أن الشعوب في ناحية والحكومات في ناحية أخرى، وإن تماهت مواقفها الإعلامية مع مواقف الشعوب
كشف القرار أيضا أن الشعوب في ناحية والحكومات في ناحية أخرى، وإن تماهت مواقفها الإعلامية مع مواقف الشعوب، وهي تعلم جيدا أنه بغير الإرادة الرسمية تصبح مظاهرات الشعوب ضجيجا بلا طحن، ما دام الحكام قد تمكنوا من مفاصل الأوطان، وأخضعوا الشعوب وحولوا بلادهم إلى سجن كبير. لذلك نرى أن صفقة القرن سوف تُنفذ، وأن فلسطين سوف تضيع، وأن الضحايا الفلسطينيين كل يوم هم وقود هذه الخطة، ما لم تتمكن الشعوب من فرض إرادتها على الحكومات، ليس فقط لإلغاء قرار ترامب؛ لأن القرار في ذاته يعكس واقعا ولا يضيف جديدا، كما قال الرئيس ترامب نفسه.
وإنما المشكلة هي في الواقع الذي تفرضه إسرائيل في القدس، وهي تبحث عن شريك فلسطيني يقوم بإخراج المسرحية إخراجا ملائما، من خلال التسليم بأن القدس هي عاصمة إسرائيل، والاتفاق على حرية العبادة في الأماكن المقدسة، ما دامت بعض الدول العربية مستعدة لتحمل مسؤولية هذه الصفقة. ثم تبدأ بقية خطوات الصفقة، وهي تصفية المقاومة، واحتلال غزة، وتسريع وتيرة الاستيطان في شرق القدس والضفة الغربية، وتهجير الفلسطينيين إلى البدائل التي قررتها الصفقة. ولذلك، كان منطقيا أن يقرر أحد الكتاب في الصحف المصرية بأن الحكومات العربية ألقت العبء على الإعلام عندما شلت السياسة، أي عندما تراجعت الإرادات العربية عن اتخاذ مواقف تتفق مع المعطيات الجديدة - القديمة، وهي أن إسرائيل تريد سلاما وأمنا واستقرارا لليهود، بينما تريد سلام المقابر للفلسطينيين والعرب.
في هذه المقالة، أطرح عددا من المقترحات لاختبار مدى مصداقية الحكومات العربية والإسلامية للتصدي لإسرائيل، وأُجمل هذه الاقتراحات في ست مجموعات:
المجموعة الأولى: وتتعلق بإسقاط شرعية إسرائيل
ذلك أن إسرائيل فكرة وحالة نفسية تمكنت من أن تصبح دولة على الجثث العربية والاختراق الصهيوني للعقل العربي تحت ستار السلام والحكام يعلمون جيدا أن هذا السلام لإسرائيل على حساب العرب وهي مكافأة القوي يقتضيها من الضعيف.
وأول أسس الشرعية لإسرائيل؛ هو قرار التقسيم الذي تقول إسرائيل إنه اعتراف من المجتمع الدولي بأن اليهود كانوا في فلسطين، وأن هذا هو شهادة ميلاد إسرائيل، ولذلك أحسنت الحكومات العربية في ذلك الوقت؛ برفض قرار التقسيم. وإسرائيل لم تحترم أي شرط من شروط القرار، وهي تعلم أن هذا القرار يؤسس لشرعية زائفة لميلاد كيان يتناقض مع القانون الطبيعي، ويزرع كيانا غريبا لدعاوى مختلفة تستند إلى القوة، وهي حالة فريدة في التاريخ الإنساني.. ثم قبل العرب قرار التقسيم مقابل التسوية مع إسرائيل، ولكن إسرائيل ضمت ربع الأراضي الفلسطينية خارج هذا القرار، ومع ذلك قبل العرب؛ أملا في التسوية، بحيث تحصل إسرائيل على معظم الأراضي الفلسطينية ويعيش الفلسطينييون إلى جانبها في دولة أخرى ذات وضع خاص.
ثم قبل العرب للمرة الثالثة تفسير إسرائيل لقرار مجلس الأمن 242، الذي يتعامل مع الأراضي المحتلة في عدوان 1967، ولم يضفِ الشرعية على الأراضي التي استولت عليها إسرائيل قبل هذا القرار.
إذا كان لدى الحكام العرب إرادة سياسية حقا؛ للمحافظة على فلسطين والقدس، وليسوا طرفا في الصفقة، فليعلنوا رفضهم لقرار التقسيم
ثم قبل العرب للمرة الرابعة تقسيم القدس، وسلموا بأن غرب القدس المحتلة يمكن أن تكون لإسرائيل. فلماذا يعترضون اليوم إذا اعتبرت إسرائيل أن غرب القدس هي عاصمتها، إلى أن يتم تهويد شرق القدس وانتزاعها هي الأخرى من أيدى الفلسطينيين، وطردهم خارج فلسطين؟ وتعلم الولايات المتحدة وإسرائيل تناقض الموقف العربي والإسلامي، بل إن قمة الرياض سلمت بالقدس عاصمة لإسرائيل. وبالفعل بدأت واشنطن تلوح بأنها تنقل سفارتها من أرض إسرائيلية، وهي تل أبيب، إلى أرض إسرائيلية أخرى لم ينازع العرب في ملكية إسرائيل لها، وهي غرب القدس التي زارها السادات، وتحوى كل مؤسسات الدولة الصهيونية. وكلما تمسك العرب بأن شرق القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية الموعودة، كلما تكرس تناقض العرب ومصداقية إسرائيل والولايات المتحدة.
فإذا كان لدى الحكام العرب إرادة سياسية حقا؛ للمحافظة على فلسطين والقدس، وليسوا طرفا في الصفقة، فليعلنوا رفضهم لقرار التقسيم، خاصة وأنه يتناقض مع القانون الدولي ومع الميثاق، وأن إسرائيل لم تلتزم به.
أما أساس الشرعية الثاني، فهو قرار الجمعية العامة ومجلس الأمن بقبول إسرائيل عضوا في الأمم المتحدة، والذي وضع لإسرائيل ثلاثة شروط لم تحترم إسرائيل منها شرطا واحدا. وتستطيع الدول العربية أن تطالب بطرد إسرائيل من الأمم المتحدة، لمخالفتها الشروط التي استند إليها قرار العضوية.
المجموعة الثانية: هي عملية السلام ومعاهدات السلام
على الجانب العربي، أعقبت عملية السلام إبرام مصر والأردن معاهدات سلام مع إسرائيل، لتشجيعها على الدخول في عملية السلام مع الفلسطينيين، تنتهي بتحقيق ما ورد باتفاق أوسلو. ولكن إسرائيل لم تحترم أوسلو، كما أظهرت أن عملية السلام مجرد غطاء لكسب الوقت وتهويد فلسطين. ولذلك، فإن قطع إسرائيل لعملية السلام هو عمل ينهي معاهدات السلام، فإذا صدقت إرادات مصر والأردن، فلتقدم على إلغاء كامب ديفيد ووادى عربة، خاصة وأن كامب ديفيد هي الطريق إلى وادى عربة وإلى أوسلو، وأن كامب ديفيد هي الميلاد الثاني لإسرائيل، على حد وصف إسرائيل نفسها. فهل يجرؤ الحكام في مصر والأردن على إلغاء هذه المعاهدات؟ وهل يجرؤ "أبو مازن" على إلغاء أوسلو؟
تحت ستار عملية السلام، جرى اختراق الدول العربية، وبدأت محاولات التطبيع دون إبرام اتفاقيات انتظارا لصفقة القرن
المجموعة الثالثة: هي مبادرة السلام العربية
لم يكن العرب بحاجة إلى تقديم مبادرة، ولكنهم كانوا بحاجة إلى تجميع أوراق الضغط حتى تلتزم إسرائيل بمرجعيات عملية السلام، وهم يعلمون جيدا أن إسرائيل تريد كل شيء. فإذا لم يكن العرب الذين قدموا مبادرة السلام يقصدون بها سلام إسرائيل، فعليهم أن يعلنوا التخلي عن المبادرة ما دامت إسرائيل قد كشفت عن نيتها الحقيقية في المعادلة الصفرية، وليست بحاجة إلى مبادرات.
المجموعة الرابعة: التطبيع مع إسرائيل
تحت ستار عملية السلام، جرى اختراق الدول العربية، وبدأت محاولات التطبيع دون إبرام اتفاقيات انتظارا لصفقة القرن. ولذلك، إذا كان العرب جادين في مواجهة إسرائيل، فليوقفوا التطبيع معها والاتصال بها والتآمر على فلسطين.
المجموعة الخامسة: تورط العرب مع إسرائيل في المؤامرة
شملت المؤامرة لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، وقامت إسرائيل بأدوار مهمة في هذه المؤامرة. وتفضح إسرائيل دائما أطراف المؤامرة، رغم أنها تخدم مشروعها. فهل يتحلى العرب بالشجاعة، ويعترفون بما حدث مع إسرائيل من تعاون ومؤامرات، والعودة إلى شعوبهم، ونخص بالذكر الذين مولوا الجماعات المسلحة في سوريا وداعش، وكذلك الذين تعاونوا مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية واللبنانية؟
ليس مطلوبا إلغاء قرار ترامب، وإنما تغيير الخط الأمريكي الداعم لمخطط إسرائيل، ولم يكن القرار سوى تأكيد لهذا الخط
المجموعة السادسة: إجراءات ضد الولايات المتحدة
ليس مطلوبا إلغاء قرار ترامب، وإنما تغيير الخط الأمريكي الداعم لمخطط إسرائيل، ولم يكن القرار سوى تأكيد لهذا الخط. ولذلك، هل تجرؤ الدول العربية على مراجعة موقفها من الولايات المتحدة، بحيث تجعل تكاليف هذا الخط الصهيوني باهظة عند صانع القرار الأمريكي؟!
إذا تم تنفيذ هذه المجموعات الست، فسوف نحافظ على فلسطين والقدس والوجود العربي، وإلا فلا جدوى من النفاق السياسي والتظاهر بدعم القدس والتباكي عليها.
أضف تعليقك