• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

الدكتور علي الصلابي

 

خروج الدعوة من الغار

 

عبّر الوحي أنزل الله تعالى على نبيه الكريم قوله: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ*".. كانت هذه الآيات إيذانًا للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأن الماضي قد انتهى بمنامه، وهدوئه، وأمامه عمل عظيم، يستدعي اليقظة والإنذار والإعذار، وحمل الرسالة، وتوجيه الناس نحو الهدي ورسالة الحق السامية للناس أجمعين. 

كانت هذه الآيات شدًا من عزيمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنهوض بعبء ما كُلّفَ من تبليغ رسالات ربه، فمضى قُدمًا بدعوته، لا يبالي العقبات والحواجز. كان هذا النداء متلطفًا لشحذ العزائم وتوديع أوقات النوم والدعة. اعتبر هذا النداء قوًة حازمة تتحرك في اتجاه تحقيق واجب التبليغ، وفي مجيء الأمر بالإنذار منفردًا عن التبشير، وكان إيذانًا بأن رسالة الإسلام تعتمد الكفاح الصبور والجهاد المرير.

بعد آيات المدثر، قام النبي الكريم يدعو إلى الله سرًا لأكثر من أربع سنوات بعد الوحي، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته وأصدقائه وأقرب الناس إليه. فكان أول من آمن بالدعوة النبوية السرية من النساء زوجته خديجة بنت خويلد بعدما سمعت صوت الرسول يتلو آيات الله، ويصلي في بيتها. وبعدها جاء دخول علي بن أبي طالب في دين الله من بين الصبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين حسب الروايات. وكان زيد بن حارثة في مقدمة الموالي في الدين الجديد، وهو حِب النبي صلى الله عليه وسلم ومولاه، ومتبناه، وهو الذي آثر خدمة رسول الله على الالتحاق بأهله؛ عندما جاؤوا إلى مكة لشرائه من النبي.

سارعت بنات الرسول الكريم زينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية للدخول في دعوة النبي الكريم، فهن التمسن بوالدهن قبل البعثة الاستقامة والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية، فأسرعن إلى الإيمان. وأصبح للبيت النبوي مكانة عظيمة في تاريخ الدعوة الإسلامية؛ لما حَباه الله به من مزايا، فهو أول بيت اجتمع فيه المؤمنون الثلاثة السابقون إلى الإسلام "خديجة وعلي وزيد"، وأول بيت أقيمت فيه الصلاة السرية، ونموذجًا حيًا لبيوت المسلمين ونسائهم ورجال المؤمنين جميعًا. وقد اكتسى هذا البيت أبهى حُلل الإيمان، وأضاء قبسُ نور التصديق في سائر الأركان. 

 

الرعيل الأول في الدعوة النبوية السرية

إن المتأمل في نقطة بدء الدعوة التي توجهت إلى امرأة كخديجة أم المؤمنين، ومولى كزيد بن حارثة، وصبي مثل علي بن أبي طالب، وبنات النبي الكريم هو دلالة واضحة على دعوة الإسلام الأممية "الكونية" الموجهة للبشرية؛ صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وإناثهم، سيدهم ومولاهم. ولكل الشرائح الاجتماعية من الرجال والنساء دوره المنتظر في البناء الاجتماعي وانتشار الحضارة في كل مكان.

حقًا كانت اللحظة التاريخية في الدعوة النبوية السرية في هداية أبا بكر الصديق أحد أبرز رجالات وأشراف وأحرار مكة، الذي كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وتاجرًا معروفًا، ورجلًا مألوفًا ومحببًا. كان أبو بكر كنزًا من الكنوز ادخره الله سبحانه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وقال فيه رسول الله: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر". كان أبو بكر من أكبر نسابة العرب، وكانت الطبقة المثقفة ترتاد مجلسه لتنهل علمًا لا تجده عند غيره، فكان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيمًا ولذلك عندما انضم للدعوة النبوية السرية استجاب له صفوة الصفوة من رجالات العرب، على رأسهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وهم أول ثمار الصديق في الاستجابة لدعوته في نصر الدين الجديد. 

مضت الدعوة سرية وفردية على الاصطفاء والاختيار للعناصر؛ التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة، التي تسعى لإقامة دولة الإسلام ودعوة الخلق إلى دين رب العباد والتي نهضت بحضارة روحية وإنجازات إنسانية كبرى لا مثيل لها.   

كان السابقون في الدعوة النبوية السرية هم خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما صور أعداء الإسلام بأن الرعيل الإيماني الأول كان من حثالة الناس والأرقاء وضعاف القوم الذين أرادوا استعادة حريتهم أو ما شابه ذلك. وتورد الروايات التاريخية المنطقية أن رصيد الدعوة بعد ثلاث سنوات من بدايتها أربعين رجلًا وامرأة، عامتهم من الفقراء والمستضعفين والموالي وفي مقدمتهم أخلاط من الأعاجم: صهيب الرومي وبلال الحبشي". وفي الحقيقة إن الذين أسلموا يومئذ لم يكن دافعهم دنيوي، وإنما هو إيمانهم بالحق الذي شرح الله صدورهم له، ونصر نبيه، يشترك في ذلك الشريف والرقيق والغني والفقير ويتساوى في هذا أبو بكر وعلي وبلال وصهيب.

 

انطلاقة الدعوة النبوية (السرية)

استمر النبي الكريم في الدعوة السرية يستقطب الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه بصورة سرية تامة بعد إقناعهم بالإسلام، وهؤلاء كانوا نعم العون والسند لرسول الله لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية، وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة النبي ظهرت فيها المشقة لأنهم لم يخاطبوا إلا من يأمنون شره ويثقون به.

تميزت معالم المرحلة هذه بالكتمان والسرية حتى من أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة. وكان النبي يربي أصحابه على العقائد والعبادات والمعاملات والحس الأمني الذي بدا أنه من أبرز عوامل نهوض الأمة بعد نشر الدين الجديد. فقد كان من عوامل التمكين هو إعطاء الحس الأمني أهمية كبرى لتجنب مفاجئات العدو وتطويره بما يناسب أحوال العصر الذين نحن فيه. وكان النبي يحسب كل خطوة يخطوها وصحبه، وكان مدركًا تمام الإدراك أنه سيأتي اليوم الذي يُؤمر فيه بالدعوة علنًا وجهرًا، ولم يعد بيت السيدة خديجة يتسع لكثرة الأتباع، فوقع اختيار النبي على دار الأرقم بن أبي الأرقم لتنظيم اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده.

وكان السبب في اختيار دار الأرقم أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه وهو من بني مخزوم وقبيلة مخزوم هي حاملة لواء الحرب ضد بني هاشم، وأن الأرقم كان فتى عند إسلامه (16 عامًا)، ويوم أن تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي، فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه أو بيته هو نفسه.

اتخذت دار الأرقم للدعوة السرية بعد أن ظاهر بعض المشركين صحابة رسول الله حين كان سعد بن أبي وقاص يَؤم بهم في أحد شعاب مكة وعابوا عليهم ما يصنعون ثم قاتلوهم وضرب سعد أحد المشركين حينها فشج رأسه. ومن ذلك الوقت أصبحت دار الأرقم مركزًا للدعوة يتجمع فيها المسلمون ويتلقون مع رسول الله كل جديد من الوحي، ويستمعون له وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم على عينه كما تربى هو على عين الله تعالى، وأصبح هذا الجمع هو نواة الدعوة النبوية للإنسانية جمعاء.

وفي نهاية المطاف يمكن القول: كان الكتمان والاستتار سياسة مصلحية في كثير من أمور الإسلام في الحرب والسلام.  فسرية الدعوة النبوية ضرورة واقعية وأمر مصلحي خاضع للنظر والاجتهاد البشري، ولهذا فإن النبي الكريم حتى بعد أن صدع بدعوته، وأنذر الناس، وأعلن رسالة النبوة ظل يُخفي أشياء كثيرة لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان كعدد أتباعه وأين يجتمع بهم وما هي الخطط التي يتخذها إزاء الكيد الجاهلي حتى عمت دعوته أركان المعمورة طوعًا وحبًا وعدلًا وأمنًا بين الناس.

  • نقلا عن مدونات الجزيرة

أضف تعليقك