بقلم: محمد هنيد
تمكن مقاربة المشهد المصري خاصة والعربي عامة عبر محورين أساسيين. يتمثل الأول في علاقة النظام العسكري بالسلطة بشكل عام وعلاقته بالتغيير السياسي بشكل خاص.
هذه المقاربة تتنزل في إطار التطورات الأخيرة التي عرفتها الساحة المصرية متمثلة في إقصاء أو اعتقال كل من ترشح ضد قائد الانقلاب العسكري هناك للانتخابات الرئاسية.
الانقلاب العسكري المصري هو واحد من أهم الأحداث التي عرفتها المنطقة العربية بعد ثورات الربيع بل هو أخطر التطورات التي وجّهت مصير الثورات العربية وتحكمت في مختلف التفاعلات التي تلته. لقد انتكست ثورات الربيع العربي عندما نجح العسكر المصري في إزاحة الرئيس المدني وإعادة الحاكم العسكري إلى سدة الحكم في مصر من جديد.
إثر نشأة ما سمّي "الدولة الوطنية" غداة خروج الاستعمار العسكري المباشر من المنطقة ونهاية حقبة الهيمنة المباشرة للقوى الأوروبية على المنطقة العربية تسلمت السلطة ثلاثة نماذج سياسية أساسية.
النموذج الوراثي العائلي في الخليج مثلا ثم النموذج العسكري في مصر مثلا وأخيرا النموذج المدني الأمني مثل تونس.
ورثت هذه النماذج السياسية الثروة والمؤسسات التي أرستها المنظومات الاستعمارية وشرعت في بناء نموذجها السياسي الخاص لكن دائما في إطار النسق الذي سطرته الإدارة الاستعمارية.
لكن يظهر اليوم بناء على تطورات منوال الثورات العربية وشراسة الثورة المضادة أن المنوال العسكري الحاكم هو أصلب المكونات وأكثرها توحشا في مواجهة حركات التغيير من ناحية وفي التشبث بالسلطة من ناحية ثانية.
أولى الملاحظات التي توجّه إلى هذا الإقرار الأخير ترى أن الأنظمة الوراثية وخاصة الخليجية منها أصلب من الأنظمة العسكرية وذلك لثلاثة أسباب رئيسية: يتمثل الأول في أن هذه الأشكال والقوى السياسية هي التي أمدت الأنظمة العسكرية بأسباب الوجود خلال المرحلة الاستبدادية السابقة للثورات.
أما الثاني فهي التي دعمت الانقلابات التي أعادتها إلى الحكم أو إلى المشهد مرة ثانية كما هو الحال في مصر بسبب الدعم الذي تلقاه النظام العسكري من دول الخليج.
أما ثالث الأسباب فيتمثل في كونها أنظمة لم يشملها ربيع التغيرات التي عرفتها باقي الأنظمة الأخرى.
جواب هذه الملاحظة هو أن دول الأنظمة الوراثية في المنطقة العربية بما فيها المغرب هي الأكثر استقرار سياسيا من ناحية أولى وهي من ناحية ثانية تسجل أعلى نسب دخل الفرد وإن بنسب متفاوتة.
تخلص الجنرال الانقلابي اليوم من المعارضة داخل المؤسسة العسكرية سواء بإقصاء المرشح أحمد شفيق أو باعتقال المرشح سامي عنان إنما يؤشر على أن الآلة العسكرية تستعيد نفس الممارسات التي دأبت عليها منذ نشأتها في قلب المشهد السياسي المصري في الخمسينات.
وهي كذلك أنظمة لم تنزلق في ارتكاب مجازر أو مذابح في حق شعوبها مثلما فعلت ذلك الأنظمة العسكرية في الجزائر مثلا أو في مصر أو في سوريا. صحيح أن بعض هذه الأنظمة متورط في مغامرات خارجية كلفت الأمة آلاف الضحايا سواء في اليمن مثلا أو في العراق أو في أماكن أخرى من المنطقة لكن هذا التورط لا يقارن بالمجازر التي ارتكبتها الأنظمة العسكرية طوال تاريخها بما فيها النظام العسكري في العراق.
بقطع النظر عن الوضع في سوريا التي انزلقت في دوامة من العنف والقتل والتطهير العرقي غير المسبوق فإن الحالة المصرية تشكل اليوم أوضح النماذج على علاقة العسكر بالسلطة السياسية.
فبقطع النظر عن كل الأكاذيب التي اختلقها الجنرال الانقلابي قبل الوصول إلى السلطة من أنه لن يترشح للانتخابات مثلا إلا أنه أثبت فعلا وبعد أربع سنوات من حكمه أنه لا يختلف مطلقا عن نظام مبارك الذي ثار ضده المصريون بل إنه يثبت كل يوم أنه أسوء بكثير من نظام مبارك.
قام النظام العسكري في مصر منذ نشأته بتصفية كل معارضيه من الشيوعيين والاسلاميين واللبراليين وذلك منذ انقلاب عبد الناصر على الملكية في 1952 أو ما سمي بثورة الضباط الأحرار.
بل إن النظام العسكري نفسه صفّى كل أنواع المنافسة داخله وذلك منذ انقلاب عبد الناصر على محمد نجيب أو انقلاب السادات على رجال عبد الناصر فيما سمي بالحرب على "مركز القوى" فور استلامه للسلطة بعد وفاة ناصر مباشرة.
بناء عليه فإن تخلص الجنرال الانقلابي اليوم من المعارضة داخل المؤسسة العسكرية سواء بإقصاء المرشح أحمد شفيق أو باعتقال المرشح سامي عنان إنما يؤشر على أن الآلة العسكرية تستعيد نفس الممارسات التي دأبت عليها منذ نشأتها في قلب المشهد السياسي المصري في الخمسينات.
إضافة إلى ذلك فلا أحد من العسكريين الذين حكموا مصر تنازل عن الحكم فعبد الناصر مات مسموما والسادات مقتولا ومبارك مطرودا من السلطة وهو ما يكشف أن الحاكم العسكري لا يسلّم السلطة أبدا ولا يعترف بصناديق الاقتراع ولا بالانتخابات.
إن الحكم العسكري في المنطقة العربية هو أعلى مراتب الحكم الاستبدادي وهو حكم لا يعترف بالاختلاف ولا بأدنى درجات حرية التعبير ويقوم على حكم الفرد المستبد ونظامه بشكل يعطل كل أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية. لقد أثبت الربيع العربي وثوراته أنه لا خلاص لهذه الأمة دون التخلص من كل أشكال الأنظمة التسلطية وعلى رأسها الأنظمة العسكرية باعتبارها أهم الحواجز التي تحول دون تحرر الفرد والمجموعة في أهم الحواضر العربية وأكبرها.
أضف تعليقك