في قرار سري خطير ومفاجئ، ألغت الهيئة المصرية للانتخابات معظم الأصوات التي حصل عليها السيسي، حتى بات مهددا بخسارة مقعد الرئاسة أمام المرشح المصنوع موسى موسى، لكن عباس كامل احتجز ثلاثة من أعضاء الهيئة لإجبارهم على التراجع عن القرار ومنع نشره، حيث كان من المقرر الإعلان عنه ظهر الغد في مؤتمر صحفي مدعوم بالأدلة والصور ومشاهد الفيديو التي تثبت المخالفات. وكشف عضو في اللجنة (شدد على عدم ذكر اسمه) أن الدافع الأساسي لإصدار التقرير بهذه السرعة؛ هو قياس درجة تصاعد وانتشار الحملة الشعبية العفوية التي ارتبطت بمواطن مصري مجهول يدعى "وليد الشريف"، دخل في صدام مع عائلته بسبب رفضه تأييد السيسي في الانتخابات، ما دفع العائلة للتبرؤ منه علنا في لافتات "الدعاية الإجبارية" التي تطلبها أجهزة الأمن من العائلات الكبيرة ورجال الأعمال ومديري المصانع والمؤسسات، ما أشعر عددا من أعضاء اللجنة بوخز الضمير، فقرروا التصرف بنزاهة لمواجهة وفضح المخالفات الانتخابية التي تهدد سمعة اللجنة والقضاء المصري أمام العالم.
(2)
لقد ثبت أن لافتة وليد الشريف مجرد مزحة بين شقيقين؛ تحولت إلى قصة شعبية ذائعة غطت على حديث الانتخابات الرئاسية في مصر. وما يهمنا في هذا المقال ليس نفي أو تأكيد "الواقعة"، ولا قياس درجة اقترابها وابتعادها عن الحقيقة في ثوبها التقليدي الزائف الذي يمتلكه عادة ضيقو الأفق المحدودون في تفكيرهم وفي رؤيتهم للعالم.. ما يهمنا أكثر هو التفكير في سؤال: لماذا انتشرت "المزحة" بهذا الشكل الذي ارتضاه الناس كحقيقة بديلة لواقع يرونه زائفا برغم واقعيته؟ فالواقع الرسمي في مصر ينفق الكثير من الأموال والقدرة في إثبات وجود انتخابات رئاسية، بينما الشارع لا يصدق الواقع، ويصدق بوتيرة أسرع كل مظاهر تهافت هذا الواقع والسخرية منه. وفي تقديري أن هذه الحالة هي البيئة المثالية التي ينهزم فيها الواقع البائس الساقط أمام "النكتة"، بكل ما تحمله من سخرية متجاوزة للمنطق، لكن غرائبيتها وطرافتها لا تحول بينها وبين الناس بقدر ما تقربهم من "خيال عفوي حر" يبدو لهم أنه أكثر صدقاً ونزاهة وشرفاً ومنطقية من واقع كاذب يفرض نفسه بأدوات الإلحاح والجذب والإغواء المؤقت، وكذلك بالتسلط والترهيب و"القوة الغاشمة"، لهذا تنتعش "النكتة" في أزمنة القمع، حتى وإن اتخذت اشكالا متباينة في التعبير واللغة والبنية، بحيث يمكننا أن نعتبر "الألش" "والتعليقات الساخرة" و"شائعات الجرافيك" فروعاً ابتكارية حديثة من فنون النكتة. وقد كانت مزحة "وليد الشريف" واحدة من هذه "النكات" التي عبرت (برغم كذبها الظاهري) أصدق تعبير عن الواقع الهزلي الذي لم يصدقه إلا المنسحقون المغلوبون.
(3)
أثناء مباراة في كرة القدم بين هندوراس وإل سلفادور، صرخ المعلق بطريقة المبالغات المعروفة عن معلقي اللعبة: "إنهم يقتلون أولادنا"، وكان يقصد أن لاعبي هندوراس سيطروا على الملعب ويحرزون الأهداف في مرمى إل سلفادور.. انتقلت العبارة من الملعب إلى الشارع وصدقها الناس كحقيقة، وتعاملت الآلة العسكرية مع الحقيقة التي ألهبت الشارع، فانطلق سلاح الجو يقصف أهدافاً عشوائية في هندوراس، وبدأت حرب مجنونة بين البلدين استمرت 100 ساعة. واتهم كثير من علماء الاجتماع "شائعة المعلق" بأنها السبب الذي أشعل الحرب، لكن هذا الاتهام للشائعة فيه ظلم كبير وإنكار لواقع المشكلات السياسية والسكانية بين هندوراس وجارتها المتسلحة بقوة عنجهية أكبر. وتصحيح هذا الواقع يفرض علينا أن ننظر للشائعة بوصفها "صورة طريفة لواقع فعلي"، بمعنى أن "لافتة وليد الشريف" ليست كاذبة، لكنها عمل فني شعبي يعبر بصدق عن حالة أبشع وأوسع تفرض كذبها على الواقع، وتريد مصادرة الحقيقة وإعادة صياغتها لتجعل من "مخالفة الواقع" هو "الواقع المكذوب" الذي تريد تعميمه.
(4)
هذا الأسلوب الذي تسعى آلات الدولة في مصر لإدانته تحت مسمى "محاربة الشائعات"، وتتوسع في إصدار التشريعات التي تعاقب مرتكبيه بالسجن، هو أسلوب علمي معروف منذ القدم، وتستخدمه الدول بقوة من خلال سيطرتها على أجهزة الإعلام، واحتكار الحقيقة من وجهة نظرها، وغرس الفوبيا في نفوس المواطنين، أو استخدام ما عرف قديما بالحروب النفسية، وهو ما يعيد نظام السيسي إنتاجه تحت مسمى "حروب الجيل الرابع" واعترافه باستخدام "الكتائب الاليكترونية في توجيه الرأي العام. والتأويل الفلسفي المعاصر لهذه الأساليب قدمه الفيلسوف الفرنسي البارز جون بودريارد في عدة مقالات ومؤلفات؛ أهمها "المصطنع والاصطناع" الذي يكشف فيه عن "موت الواقع الجذري" لصالح انتشار الصورة كبديل للواقع، أو ما تحدث عنه المفكر الفرنسي ريجيه دوبريه في كتابه "الفيديولوجيا"، ومقالاته عن سيطرة الصورة على الواقع، بحيث صارت الصور وشعارات الجرافيك أشبه بمتاهة هائلة يضل الواقع التقليدي في سراديبها ما يفرض علينا (إذا أردنا العبور إلى أهدافنا الصحيحية) أن نبذل الجهد ونمعن النظر لمحاولة اكتشاف الصورة الأصلية لطريقنا من بين آلاف الصور المستنسخة الزائفة. ولا شك أن صورة "وليد الشريف" ليست زائفة في ذاتها، بل تبدو كإشارة لكشف زيف الصورة الأكثر تزييفا التي تجذب المخدوعين إلى الطريق الخاطئ بحجة أنها الحقيقة، مع أنها ليست كذلك.
(5)
لن أعيد عليكم رأي المخرج الراديكالي الراحل سيدني بولاك، عندما قال إن الكذب الفني يكون في العادة أكثر صدقاً من الواقع نفسه، لكنني سأختم مقالي بالحكاية التي دونها ناعوم تشومسكي في الغلاف الأخير لكتابه عن الإرهاب (قراصنة وأباطرة)، والتي روى فيها على لسان القديس أوجستين؛ قصة اعتقال جيش الإسكندر لقرصان في البحر المتوسط ومحاكمته، وحـين سـأله الإسكندر: كيف تجرؤ على مضايقة الصيادين في البحر؟ أجاب القرصان: لماذا تسألني وأنت تتفاخر بمضايقة العالم بأسره؟ ألأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة تحاكمونني باعتباري "قرصانا"، وعندما تفعل ذلك أنت بأسطول كبير تنال المجد ويعتبرونك "إمبراطورا"؟!
(6)
أيها الكاذبون إن "مزحة وليد الشريف وشقيقه" أكثر صدقاً من أكاذيبكم الرسمية، وأكثر قبولا وقربا من عقولنا وحياتنا، وأكثر تعبيرا عن "المهزلة المفضوحة" التي تريدون منا ومن العالم تصديقها، وهي لا تدنو من الحقيقة ولا تصلح حتى كـ"نكتة". وبالمناسبة، فإن الفقرة الأولى من المقال ليست إلا "فقرة إبداعية" لم تصل إلى مستواها الهيئة المصرية للانتخابات؛ لأنها أجبن من أن تتصرف بضمائر القضاة، وتفضل مسايرة الأكاذيب الرسمية ضمن نظام هزلي من المسوخ البشعين، لا يصلح لتقديم بطولات حقيقية، ولا يصلح أيضا لتسلية الناس وإمتاعهم، لهذا انصرف الناس عن النظام وانتخبوا وليد الشريف.
أضف تعليقك