بقلم: محمد مختار الشنقيطي
كان العرب قُبيْل الإسلام أهل فطرة سليمة جاهزة لتتشرب عقيدة التوحيد دون غبش كثيف من مواريث الوثنية. فوثنيتهم كانت سطيحة جداًّ تحمل تحت قشرتها بقايا راسخة من توحيد أبيهم إبراهيم. وكانوا أهل عزة وإباء غير متلوِّثين بعبودية الإمبراطوريات العتيقة، كما كانوا جيشا مثاليا مشحونا بحب القتال والنزال، لكن ذلك الجيش لم يكن يحمل رسالة أخلاقية أو إنسانية، فتحوَّلتْ روحه القتالية استنزافا للذات ونزعة عَدَمية. فكان العرب إذا وجدوا عدواًّ قاتلوه، وإلا قاتلوا إخوانهم، على حدِّ قول الشاعر القَطَامي:
وأحيانا على بكرٍ أخينا *** إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقد غير الإسلام البنية الاجتماعية العربية، كما غير مكانة العرب في التاريخ، حين صنع منهم أمة جديدة، فـ"الإسلام حوَّل قبائل الجزيرة العربية من أعراب إلى عرب"، كما لاحظ جمال حمدان بحق، لكن بعض العرب ظلوا متشبثين بأعرابيتهم. فالشاعر القطامي عاش في صدر الإسلام، لكنه -شأنه شأن كثيرين- ظل يحمل الكثير من روح عرب الجاهلية وقيمهم الاجتماعية والسياسية.
وإذا كان الإسلام قد سنَّ للمسلمين أن يكون "أمرهم شورى بينهم" فإن أحسن توصيف لما كان عليه العرب قبل الإسلام هو أن "أمرهم فوضى بينهم". وقد أصبح هذا المنزع الفوضوي راسخاً في حياة العرب حتى "صار لهم خُلُقا وجِبِلَّة، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة" حسب تعبير ابن خلدون.
ولفظ "الفوضى" يدل في أصل وضعه الاشتقاقي في اللغة العربية على الاشتراك في الأمر. قال ابن سِيدَه فيما نقله عن ابن دريد في معنى الفوضى: "أمرهم فوضى بينهم، وفيضوضى وفوضوضى: إذا كانوا مشتركين فيه." وقال الجوهري: "أموالهم فوضى بينهم: أيْ هم شركاء فيها". وللفوضى عند عرب الجاهلية مدلولان: أحدهما سياسي، وقد ورد أحيانا في سياق الذم، وذلك في بيت شهير للشاعر الجاهلي الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم *** ولا سَراة إذا جُهَّالهم سادوا
أما المدلول الثاني فهو اجتماعي، ويعني المساواة والمشاركة. والفوضى -بهذا المعنى- تعدُّ أحيانا فضيلة في عُرف العرب الأقدمين. ومنها قول الشاعر المعدل بن عبد الله الليثي يمدح أحياءً من العرب:
طعامهمُ فوضىَ فضاً في رحالهم *** ولا يحسبون السوء إلا تناديـا
قال التبريزي: "المعنى: لا يستأثر بعضهم على بعض في المأكول، ولا يفعلون قبيحا يُستَر، فكل أفعالهم ظاهرة لأنها جميلة". وقال الزمخشري: "مالُهم فوضى بينهم: مختلطٌ، من أراد منهم شيئا أخذه". ونقل ابن منظور عن أبي زيد قوله: "القوم فيْضوضى أمرُهم، وفوْضُوضَى فيما بينهم: إذا كانوا مختلطين، فيلبس هذا ثوب هذا، ويأكل هذا طعام هذا، لا يؤامر [يشاور] واحد منهم صاحبه فيما يفعل في أمره".
فالفوضى بهذا المعنى الاجتماعي فضيلة عربية، لكنها بمعايير القيم السياسية الإسلامية -وكلِّ قيم سياسية أياًّ كانت- نوعٌ من التسيُّب، وانعدام ثقافة القانون والنظام التي لا غِنى للاجتماع السياسي عنها. وهذه الفوضى السياسية والاجتماعية المتأصلة في الثقافة العربية قبل الإسلام جعلت بعضهم لا يميزون -بعد الإسلام- تمييزا واضحا بين مفهوم الفوضى ومفهوم الشورى.
وربما يكون الشعر العربي في الجاهلية وصدر الإسلام هو أفضل مرآة عاكسة لقيم البداوة السياسية التي اتسم بها العرب قبل الإسلام، سواء في شِقِّها الإيجابي الرافض للظلم والعبودية السياسية، أو في شِقِّها السلبي المتمنِّع على أي اجتماع سياسي مستقر الأركان. وقد عبَّر الشاعر بشامة بن حزن عن منطق القبيلة العربية المتمردة على الدولة، في قوله مفتخرا بقومه:
مِن عهد عادٍ كان معروفاً لنا *** أسْرُ الملوك وقتْـلها وقتالُها
كما عبَّر الشاعر سعد بن ناشب عن ثمار هذه الفوضى السياسية، وصناعة القرار في هذا السياق الفوضوي، فقال متمدِّحاً:
إذا همَّ ألقى بين عينـيـه عزمـه *** ونكَّب عن ذكر العواقـب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسـه *** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
ولعل معلقة الشاعر الفارس عَمْرو بن كلثوم والسياق الذي صيغت فيه هما أبلغ تعبير عن العزة العربية تجاه السلطة السياسية، وتمنُّع الطبيعة العربية آنذاك من الخضوع لأيِّ سلطان. إذ نجد على لسان عَمْرو بن كلثوم كيف كان العرب يطالبون الملوك بالسجود للوليد الجديد منهم، في زمان كانت الأمم المحيطة بجزيرة العرب تسجد لملوكها إجلالاً، كما نجد على لسانه كيف كان العرب يعشقون التمرد على سلطة الملوك، ويفخرون بقتلهم وتصفيدهم بالأغلال أسرى. يقول عمْرو بن كُلثوم.
إذا بلَغَ الفطامَ لنا صـبِـيٌّ *** يخرُّ له الجبابر ساجديـنـا
وأيامٍ لنا غُـرٍّ طِـوالٍ *** عصَيْنا الـمَلْك فيها أن نَديـنا
فآبوا بالنهاب وبالسبـايا *** وأُبْنا بالملوك مُصفَّـديـنـا
وسيِّدِ معشر قد تـوَّجُـوهُ *** بتاج الـمُلْك يحمي المحْجرينا
تركْنا الخيل عاكفــة عليه *** مقـلَّدة أعنَّتها صَـفــونا
إذا ما الـمَلْكُ سامَ الناسَ خسفاً *** أبيْنا أن نُقِـرَّ الـذلَّ فيـنـا
لقد كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام عَصيَّة على فكرة الدولة. وما كان من ممالك ودول على أطراف الجزيرة العربية في القرون السابقة على الإسلام كان امتدادا للامبراطوريتين المحيطتين بالجزيرة العربية: الفارسية والبيزنطية، وهو لا يعبر عن تطور ذاتيٍّ للبنية الاجتماعية العربية. وينضاف إلى ذلك تحلُّل ممالك الأطراف تلك قبيل ظهور الإسلام وبالتزامن معه. وكل هذا يبيِّن عمق الفراغ السياسي العربي الذي ظهر فيه الإسلام، فترك بصمة عميقة على مسار القيم السياسية الإسلامية في واقع الحياة. ولولا أن الإسلام غيَّر المزاج الأخلاقي والثقافي العربي تغييرا عميقا لما نشأت الدولة في قلب الجزيرة العربية.
وقد قدَّم لنا ابن خلدون في "المقدمة" تأملا عميقا في هذا المنزع الفوضوي الطاغي على التقاليد السياسية العربية، وكل تقاليد قبلية، ومحاولةً جادة لفهم منطقه الداخلي. كما انتبه ابن خلدون إلى ضرورة الدين للبناء السياسي العربي، فبيَّن أن طبيعة العرب العصيَّة على سلطان الدولة لا يمكن تذليلها وترويضها إلا بالدين، لأن وازع الدين ذاتيٌّ، فهو قادر على إخضاع النفس العربية الأبيَّة، التي طالما عجزت السلطة السياسية عن إخضاعها. ولم يكن ابن خلدون يقصد العرب من دون الناس، وإنما كان يبيِّن معالم البداوة السياسية عموما، ولذلك فقد ألْحَق بالعرب في هذا المنحى الفوضوي كل الأمم ذات التقاليد القبلية العصية على منطق الدولة، فتحدَّث مرة عن العرب، ثم عقَّب بقوله: "وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتّركمان والتّرك بالمشرق"، "وأهل اللّثام من صنهاجة".
وقد لاحظ ابن خلدون أن نفوس العرب الفطرية قريبة إلى قبول الحق والخير، خصوصا إذا جاء في صيغة دعوة دينية. فالمفتاح السياسي للشخصية العربية في رأي ابن خلدون هو الدين الإسلامي، وقد جعل عنوان فصل من مقدمته "في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوَّة أو وَلاية أو أثرٍ عظيم من الدين على الجملة". ولخص ابن خلدون رأيه في هذه الطبيعة العربية المزدوجة، التي جمعت بين صعوبة الإخضاع لسلطان الدولة، وسهولة الخضوع لسلطان الدين، فقال: "العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك، والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم... فصعُب انقياد بعضهم لبعض، لإيلافهم ذلك وللتوحُّش، ورئيسُهم محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطراًّ إلى إحسان مِلْكتهم وترْك مراغمتهم... فبعُدت طباعُ العرب لذلك كله عن سياسة المُلْك. وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدُّلها بصبغة دينية، تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم".
وكان الشيخ محمد الغزالي من علماء الإسلام المعاصرين متحفظا على رأي ابن خلدون في العرب، لكنه انتهى إلى أنه لا يزال حكما صائبا، رغم تبدل الظروف وتوالي القرون. وفي ذلك يقول محمد الغزالي في كتابه: (علل وأدوية): "لقد قرأتُ رأي ابن خلدون في العرب، وترددتُ في تصديقه، ثم انتهيتُ أخيراً إلى أن العرب لا يصلُحون إلا بِدينٍ، ولا يقوم لهم مُلْكٌ إلا على نُبوَّة، وأن العالَم لا يعترف لهم بميزة إلا إذا كانوا حمَلة وحْيٍ. فإذا انقطعتْ بالسماء صِلتُهم، ضاقت عليهم الأرض بما رحُبتْ، وغشِيَهم الذُّل في كل مكان".
ويبدو أن العلمانيين العرب اليوم بحاجة إلى تأمل رأي ابن خلدون ومحمد الغزالي هذا، من أجل فهم مركزية الدين الإسلامي في صياغة الشخصية السياسية العربية. فقد انهزمت قيم القبيلة المتمردة على سلطان الدولة أمام قيم التعاقد السياسي الإسلامي، خلال العصر النبوي والخلافة الراشدة. والعرب اليوم أمرهم فوضى بينهم، قد طغت الأنانية السياسية على سلوك نُخبهم، ولا تكاد تتجسَّد إرادة جماعية في سلوكهم السياسي داخل بلدانهم أو خارجها.
ولا سبيل للخروج من هذه الحال إلا أن يصبح أمرهم شورى بينهم، من خلال بناء سياسي يستلهم قيم الإسلام السياسية، ويستند إلى المرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يحقق للإنسان العربي المصالحة مع ذاته ومع العالم. وما يصدُق على العرب في هذا الباب يصدُق أيضا على الترك والكرد والأفغان والأمازيغ، وغيرهم من الأقوام الإسلامية ذات الجذور البدوية المحاربة.
أضف تعليقك