بقلم: د.محمد إبراهيم المدهون
على تخوم شرق قطاع غزة المعذب بالحصار والذي عاش قبل سنوات أربع تراجيديا الدم والدماء، وعنفوان البطولة وملاحم الفداء فوق الأرض وتحت الأرض ومن مسافة صفر؛ يرابط الجيل الرابع بعد اللجوء الذي لم يعش في فلسطين التي هُجّر منها أجدادُه ولكنها عاشت فيه، فأسقط المقولة الإسرائيلية: "الكبار يموتون والصغار ينسون".
وها هو الجيل القادم من خلف غبار الهزيمة والتطبيع يرسم ملاحم العلاقة القادمة مع "الجيش الذي لا يُقهر" في ناحل عوز، حيث داس شاب لم يتجاوز عقده الثاني رأس جندي إسرائيلي مُدجج بالسلاح.
واليوم على ذات البُقعة يعيش شعب فلسطين دراما "يوم الأرض" (30 مارس/آذار)، وذكرى النكبة المتجذر ضميرياً في عمقه ليعاد رسم مشهد كان منذ 70 سنة، حين افترش الشعب الفلسطيني الأرض والتحف السماء، وتقرفص برداً أسفل خيمة لجوء يُفترض أنه يحميها شعارا الصليب الأحمر والأمم المتحدة.
إن غزة هي "يوسف" هذا الزمان حين تنكر له إخوته، ولكنه أبداً لم يخذلهم رغم كيد ومؤامرات لم تنته. غزة اليوم تنهض مجدداً وتقف على قدميها منتصبة القامة في مسيرات العودة الكبرى وحراكها السلمي الشعبي، لتنقذ العالم من ظلمه وانحراف أخلاقه وسقوط إنسانيته، وتنقذ الإقليم من شهوة الزعامة المراهقة التي ترهن المنطقة للسيد الأميركي بالتبعية الساقطة لبنيامين نتنياهو.
ولتنقذ كذلك السلطة الفلسطينية من سقوط مشروعها السياسي، وتحرِّرَها من قيود اتفاق أوسلو، وتشير للجميع إلى جهة الخرق القادم الذي على الجميع تصويب البوصلة نحوه بإنقاذ العالم من مصدر شره "إسرائيل"، التي تشكل عبئاً على كافة مكوناته الإنسانية والأخلاقية والسياسية والأمنية والاقتصادية باعتبارها مصدر الإرهاب في العالم.
إفشال صفقة القرن
مشهد مسيرة العودة الكبرى جاء ترجمة لإعلان يتجدد: "لا صوت يعلو فوق صوت الشعب الفلسطيني"، انطلقت مئات الآلاف زحوفاً لا تلتفت إلى الوراء لتتسلم الراية بعد السقوط المدوي لراية مشروع التسوية بتلاشي حلّ الدولتين، وإعلان دونالد ترمب دفنه بشطب القدس، وسقوط فريق أوسلو الذي يمارس التنكر لغزة بكل صلف وعنجهية بإجراءات انتقامية لا إنسانية.
جاءت مسيرة العودة الكبرى لتقف في وجه مشروع تصفية القضية الفلسطينية عبر صفقة القرن أو ما أفضل تسميته بصفقة ترمب، التي بدأت تستكمل تشكيل إطار سلام إقليمي ضد إيران، وإزالة القدس عن طاولة التفاوض، وضم معظم الضفة الغربية إلى "إسرائيل"، وسعياً لتصفية الأونروا كخطوة أولى في تفكيك قضية اللاجئين وشطب حق العودة.
هذا إضافة إلى إنفاذ مشاريع التوطين عبر مؤتمر دولي للسلام يُعقد في مصر غالباً، ومنح السلطة تمويلاً شحيحاً بقيمة أربعين مليار دولار لبناء الدولة الموعودة بدون القدس ولا حق العودة للاجئين، ومنح بعض دول الإقليم المستضيفة للاجئين فاتورة الوجود الفلسطيني المؤبد على أراضيها، ممثلة في عشرين مليار دولار يقدمها صندوق تعويض دولي.
الخشية الإسرائيلية تتعاظم من الحراك الشعبي، خاصة في ظل ملحمة ذكرى "يوم الأرض" و"جمعة الكوشوك" (إطارات السيارات)، واحتمالية عالية لاستمرارها وتعاظمها في غزة وتمددها لتمثل حالة غير مسبوقة من سلوك العودة الذي يشكل رعباً للاحتلال.
هذا فضلاً عن مخطط وفرص التمدد العالية لحدود "إسرائيل" سواء في لبنان أو سوريا والأردن، وحتى في الساحل للقادمين من أوروبا والعالم، وكذلك الضفة الغربية التي يُتوقع أن تشتعل قريباً وتلحق بركب غزة كالعادة لتشكلا سوياً رعبا دائما للاحتلال، وهو ما يشكل تهديداً لمن يسعون لفرض صفقة القرن.
وفي هذا السياق؛ تراهن "إسرائيل" وبعض الأطراف الإقليمية على عامل الزمن، ومن هنا جرت محادثات تهدئة بينهم خشية انتقال عدوى التمرد الغزي فلسطينياً وعربياً، وربما يدفعهم هذا إلى التراجع عن الإجراءات الانتقامية ضد غزة، والاحتشاد البشري يمنح غزة ضوءاً في نهاية نفق الحصار، بعد أن فرضت غزة نفسها كمحرك فعال ورئيسي في المنطقة.
لقد أضحى بيت العنكبوت (إسرائيل) في حالة إرباك، وأعلنت قيادته النفير في المجلس الوزاري المصغر وهيئة الأركان والشاباك ومغتصبات غلاف غزة، وتجبر رئيس الأركان الصهيوني غادي إيزنكوت على الاعتراف بأن "غزة تعدّ مصدر التهديد الرئيسي للأمن الإسرائيلي في الوقت الحالي"، ثم أضاف قائلا إنه "من الصعب إخضاع غزة".
أهمية سلمية الحراك
كما أنها فضحت سياسة أطراف الحصار المفروض على غزة وعلى رأسهم الاحتلال، وأثبتت فشل السياسات القائمة الساعية لتشديد الحصار، وهو ما يفسر تعاظم الدعوات إلى تغيير نمط التعاطي مع هذا الحصار، وربما يوضح أيضا لماذا عُقد مؤتمر واشنطن (مارس/آذار الماضي) الزاعم لحلّ أزمات غزة.
مسيرة العودة بغزة التي انطلقت في ذكرى "يوم الأرض" وستبلغ ذروتها في 15 مايو/أيار (ذكرى النكبة)، تزامنا مع موعد نقل السفارة الأميركية إلى القدسوما يحمله من تحدٍّ للأمة وشعب فلسطين؛ ممتدة حتى تحقيق أهدافها المشروعة بوصفها مجسدة للفكر الوطني الموحد، والمرتكز على جوهر القضية الفلسطينية المتمثل في حق العودة الساطع كالشمس.
وبذلك تمثل مسيرة العودة حالة التفاف فلسطيني جمعي في شتى أماكن الوجود واللجوء، في مشهد أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية في عمقها الشعبي، وفرض معادلة متجددة للصراع على قواعد الالتحام الشعبي الوحدوي، وتوسيع دوائر الاشتباك في ساحات جديدة بأدوات محفزة، لتضع الاحتلال في قفص الاتهام وحيداً باعتباره المسؤول المباشر عن الاحتلال والحصار واللجوء والشتات الفلسطيني.
الحراك شعبي وسلمي، وهذا يقتضي تجريم حالات الاستهداف المقصود التي شاهدها العالم حين رأى صور قنص الشباب الفلسطيني وكأنهم في حقل صيد، وجريمة قتل المدنيين من جميع الفئات، وكذلك استهداف الصحفيين.
ومن هنا فإن الحرص على دوام السلمية والحراك الشعبي هامّ لما يمثله من حالة احتشاد نوعي مربك للاحتلال، عبر اعتصام دائم وفعاليات مجتمعية منتظمة وسلمية، وانصهار قيادي، وخطاب إنساني إعلامي، وإبراز لروح الشجاعة الفائقة، وزيادة ساحات الاعتصام، وتعاظم قوتها.
هذا إضافة إلى حراك دبلوماسي سياسي مصاحب للغة قانونية إنسانية تبرز المظلومية، عبر تغيير الصورة الذهنية عن غزة لصالح ترسيخ حق الشعب الفلسطيني -إنسانياً وأخلاقياً- في العودة وتقرير المصير.
وبذلك؛ فإن مسيرة العودة الكبرى ونجاحها اللافت في خطوتها الأولى تشكل فرصة لإعادة الاعتبار للمقاومة الشعبية على طريق شمولية المقاومة، ولمشروع الوحدة الميدانية (لا راية سوى علم فلسطين) عبر عمل وطني مشترك غايته العودة.
ويتم ذلك بتدشين مخيمات العودة على طول حدود فلسطين، ومنح قُبلة حياة لمشروع المصالحة، والدعوة اليوم جادة لتشكيل سريع لحكومة وحدة وطنية، تمثل حالة إنقاذ للمشروع الوطني الفلسطيني بديلاً عن الدعوة إلى عقد المجلس الوطني تحت حراب الاحتلال في رام الله.
إحياء قضية فلسطين
إن الحراك الشعبي الفلسطيني السلمي الحالي هو الأضخم منذ عقود بمئات الآلاف، وبهذا الشكل يتعزز الالتفاف الوطني والتعاضد بألوان الطيف الفلسطيني التي طالما تناقضت في برامجها ومشاريعها، مما أوقع شرخاً طولياً جسّده انقسامٌ لم يعد قابلاً للعلاج بخطط ترقيعية ومصالحة تبدو "طبخة حصى".
لقد أعادت هذه المسيرة -في زمن قياسي- القضية الفلسطينية إلى الأجندة الدولية ممثلة في طاولة مجلس الأمن، والفضاء الإعلامي الدولي، في حين لم نسمع لجامعة الدول العربيةومنظمة المؤتمر الإسلامي رِكْزاً، وأحرجت "إسرائيل" مجدداً بسلوكها اللاإنساني، وأعادت الحصار الظالم على غزة إلى قلب الأحداث.
وبذلك تعطل المسيرة مشروع صفقة القرن وقد تسقطه كلياً، وتعيد الاعتبار إلى الحالة الشعبية، وتخلق مناطق احتكاك مستحدثة مع الاحتلال بعد انسحابه من غزة، وتربك السلطة التي تمارس إجراءات انتقامية ضد غزة وتظهرها خارج الحساب الوطني، وتعطل مشاريع التطبيع وأصحابها فتبدو صورتهم خيانية بينما تسفك الدماء الفلسطينية الطاهرة.
إن مسيرة العودة الكبرى اليوم تمثل أعظم مشروع نضالي معاصر واسع المدى، ويسمح بشراكة ممتدة ومتعاظمة، ولذلك يحتاج إلى مخطط إستراتيجي ومرحلي. والحديث هنا عن تحقيق العودة كهدف إستراتيجي طموح ومُبالغ فيه، ولكنه إحياء لروح العودة في جسد شعب أنهكته محطات قاسية.
ولكن الفعل الجماهيري الفلسطيني العظيم والسياج القانوني الدولي يسمحان بالمطالبة بتوسعة حدود غزة حتى خطوط الهدنة 1949، لتبلغ مساحة غزة 555 كم2، وببناء مطار وميناء، ورفع كامل للحصار، ودعم للتنمية، وبتطبيق القرار (194، الفقرة 11).
إن الدماء النازفة بغزارة في مشوار مسيرة العودة الكبرى تشي بضرورة الحذر مما هو قادم، فهي معركة تحتاج قيادة قادرة على الضبط والسيطرة والمرونة، ضمن منظومة وطنية وهيئة تنسيق ميداني فاعلة، وشراكة شبابية وازنة، وانسجام منقطع النظير، وإبداع مربك للعدو.
وكل ذلك يحتاج إدارة تكتيكية فاعلة وتفاعلية للفعل اليومي المتباين والمتعاظم وعلى صُعد شتى، خاصة في ظل حالة من عدم اليقين، وسلوك متغير من العدو، وبيئة سياسية ودرامية، ووجود شعب وشباب غزي منتفض وقائد متحمس مطلوب منحه أن يقود نضال شعب أنهكه تردد البعض والاستخفاف به؛ فالشعب الفلسطيني يثبت كل مرة أنه أكبر من قيادته، وأنه عصي على الذوبان واللاوعي والهزيمة.
أضف تعليقك