بقلم الأستاذ الدكتور / أحمد العسال
حين ينظر أي مسلم غيور على أمته ودينه إلى حال هذه الأمة اليوم فإنه لا يشعر بالرضا أبدًا؛ لأنه يراها في حال من الضعف والهوان، وقد تكالبت عليها أمم الأرض قاطبة، حتى باتت نهبًا لكل طامع.
ونتساءل من جديد- ذلك السؤال القديم الساذج- أنَّى هذا؟
وكأننا بهذا السؤال ننفي تبعة هذا الحال عن أنفسنا، والله عز وجل يقول: ﴿مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ (الشورى:30).
أجل... إنَّ هذا الحال من أنفسنا نحن، من غفلتنا عن منهج الله وعن سننه في الخلق، وإن واقعنا ليشهد بهذه الحقيقة بلا جدال، لكن تودُّ هذه الرسالة الموجزة أن تطرح قضيةً طرحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعائه، وطرحها القرآن الكريم في أكثر من آية، وإذا استطعنا ان نعيَها جيدًا- خاصة الدعاة والمربين- فمن الممكن أن نجعلها طريقًا للفلاح والنجاح والسيادة، بشرط أن لا نفرِّط فيها، ونثبُت عليها.
لقد كان من دعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد".
الأمر هنا هو ما جاءت به الشريعة ونزل به الوحي، قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (الجاثية:18،19)، ولله عز وجل الخلقُ والأمر قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 54).
والثبات في الأمر: المداومة عليه، ويقتضي العون من الله، فالنفس البشرية قلب، والشيطان قاعد لها بالمرصاد؛ ولذا كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعو دائمًا "اللهم يا مقلبَ القلوب والأبصار ثبتْ قلبي على دينك"، وجاء في القرآن: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ (إبراهيم: 27).
وأهم ما يعين على الثبات في الأمر اليقين بالله عز وجل، وشحذ النفس بالحب لأمر الله وأداء ما افترضه وأمر به، وتطهير القلب من أدران الرجس والشرك والنفاق والبُعد به عن أمراض العُجب والكبر والرياء، والتنزُّه عن رذائل الأخلاق والعادات، ثم المداومة على فعل الطاعات، واكتساب الخيرات والورود موارد الصالحين من الذكر والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ومصاحبة خير الخلق- صلى الله عليه وسلم- في غدوه ورواحه وصلاته ودعائه.
"والعزيمة على الرشد" المقصود بها عقد القلب على تنفيذ الأمر الصواب، فالرشد هو خلاف الغيّ يُستعمل استعمال الهداية، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ ( البقرة: 256)، ومن أسمائه تعالى (الرشيد)، أي الذي أرشد الخلق إلى مصالِحِهم، ودلَّهم عليها، وقيل: هو الذي تنساق تدبيراته إلى غايتها على سبيل السداد من غير إشارة مشير ولا تسديد مسدد (انظر تفسير الألوسي).
فالرُّشد والرَّشاد نقيض الغيّ والضلال، وفي الحديث الشريف "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي"، والولي المرشد هو خير ما يُكتسب في هذه الحياة، قال تعالى: ﴿مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا﴾ ( الكهف: 17).
والرجل الرشيد وجودُه يمنع انتشار الفساد، قال الله تعالى على لسان سيدنا لوط- عليه السلام- بعد أن جاءه قومه يريدون فعل الفاحشة بضيوفه: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ (هود: 78): أي إذا تزوجتموهن..، والحاكم غير الرشيد يورِد قومَه المهالك، قال تعالى في شأن فرعون وأتباعه:﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ (هود: 97، 98).
فالرشد إذًا أمر عام يتناول الحياة كلها، وإذا أُلهم المرء الرشدَ فيما يباشره ويعمله فقد هُدِيَ إلى الطريق والوجهة الصحيحة، وأهم معالم الرشد إتيان ما يرضي الله، واجتناب ما يسخطه، ولهذا امتنَّ الله تعالى على خليله إبراهيم- عليه السلام- بالرُّشد، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 51)، وكان من دعاء فتية الكهف حين ولجوه أن قالوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ (الكهف:10)، وكانت دعوة مؤمن آل فرعون لقومه أن يتبعوه ليسلكوا سبل الرشاد... ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: 38)، ومن هنا فحقّ على المؤمن الواعي- المشمر عن ساعد الجد- أن يأخذ للحصول على الرشد أهبتَه وأسبابه، ولا يترك الأمر يتسرب من يده، بل لابد من مباشرة الأسباب، واقتضت مشيئته سبحانه ارتباط النتائج بأسبابها، قال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (الأنفال: 17)، فقد أثبت الرمي له- وهو السبب- واحتفظ لنفسه سبحانه بالنتيجة.
فتقوية الإرادة والأخذ بعزائم الأمور والتوقِّي من التبرير والتسويف لن تتم إلا بالمسارعة في الخيرات، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133)، فالطاعة تستجلب أختها، وكل جارحة تستعمل في الخير تعين الأخرى، وكل خلق حسن يستتبع الآخر، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا... وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا".
ومما يعين على الرشد: الصحبة الصالحة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي".
وقال الشاعر:
عن المرأ لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمُقارن يهتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارَهم
ولا تصحب الأردى فترى من الردى
ومما يعين على الثبات: تذوق حلاوة الإيمان، وذلك يتم بثلاثة أمور، أوردها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "ثلاث مَنْ كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرأ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر- بعد أن أنقذه لله منه- كما يكره أن يقذف في النار"، وكذلك مداومة الذكر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال:45).
الخلاصة أن الثبات في الأوامر، والعزيمة على الرشد هي قمة الاستمتاع بالدنيا، لا كما يتهم واهم أنه تعنُّت وغلوّ وتنطُّع، إنه استمتاع بالحلال الذي فيه خير الدنيا والآخرة، وليس استمتاعًا بما يعطي لذةً خاطفةً، ويتبعها حساب عسير.. أدرك هذه الحقيقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فظل يسأل ربه أن يلهمه الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، فكان له ما أراد.
إذا أُلهم المرء الرشد فيما يباشره ويعلمه فقد هُدي إلى الطريق والوِجْهة الصحيحة، وأهم معالم الرشد إتيانُ ما يُرضي الله واجتنابُ ما يُسخطه.
أضف تعليقك