لقد حرص الإمام البنا على زيارة الأراضي الفلسطينية حيث سجل هذه الزيارة التي استغرقت عدة أيام الأستاذ سعد الدين الوليلي، وقد بدأ هذه الرحلة بمدينة رفح.
يقول سعد الدين الوليلي: في سلامة الله ورعايته أدركنا رفح بالسيارات قبيل صلاة الجمعة فإذا بها تموج بالمستقبلين وكان في النية أداء الصلاة في رفح بناء على دعوة الإخوان الكرام رشاد الشريف نائب الإخوان وعلي أحمد الكيكي أمين الصندوق، وكمال الطيراوني المدرس بمدرسة الإخوان. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فلقد وصل نبأ مقدم المرشد العام إلى أهالي خانيونس. فلحقوا لاستقباله، ودعوته لتأدية فريضة الجمعة بمسجدها الكبير.
ولقد كان وفد المستقبلين مكونًا من السادة أحمد مصطفى الأغا وعيد حسين الأغا وحلمي الأغا والشيخ فهمي الأغا إمام المسجد وسكرتير الإخوان والحاج علي عليان المصري سكرتير اللجنة القومية والحاج محمد المصري وعثمان العبادلة وراغب شراب وكامل شراب والأخ صالح مصلح زعرب مساعد قائد جوالة الإخوان والحاج محمد الشاعر ونصر الله البيوك وعثمان شعت وكلهم من الإخوان وأعضاء في اللجنة القومية كما حضر الحاج حسين أبو سنة عن قضاء بئر السبع. والحق كانوا خير مستقبلين لخير قادم.
لم يرد فضيلته دعوتهم. كما لم يفته حفظه الله أن يشكر لإخوان رفح تنازلهم عن حقهم في زيارة فضيلته لدارهم ومدرستهم ومسجدهم فأصدر أمره الكريم بالتحرك إلى خانيونس. وتقدمنا المستقبلون في رتل من السيارات.
وعلى بعد بضعة كيلومترات من خانيونس استقبله العرب البواسل في سياراتهم الكبيرة بعاصفة من طلقات رصاص أسلحتهم التي أخذت تتزايد من كل جانب. وكلما اقتربنا رد عليها من تقدمنا من المستقبلين بالمثل. وكانت أشبه بمظاهرة من صنف جديد اختفى منها التصفيق والتهريج واحتبست الحناجر عن الهتافات وأخلى السبيل لنبضات القلوب المؤمنة وقد اختلطت بطلقات البنادق والثومى والرشاشة لتعبر عن عظيم فرحهم وكامل سرورهم بمقدم المرشد العام وصحبه.
وما كدنا نقترب من مدخل المدينة حتى هرعت جحافل من الشعب واحتشدت على جانبي الطريق تتقدمها طوابير نظامية من المسلمين كان فرحنا عظيمًا حينما تبينا أن معظم أفرادها من فرقة جوالة الإخوان بخانيونس التي تزيد على مائة وخمسين جوالاً وضعوا أنفسهم وأسلحتهم تحت أمر اللجنة القومية.
وأخذت هذه الكتل المتراصة والتشكيلات النظامية تحيط بالقافلة والكل يتزاحمون، كل يريد اجتلاء طلعة فضيلته. وكلما أرادوا الإعلان عن طربهم انطلقت بالأناشيد القومية حناجرهم على نغمات من موسيقى طلقات الرصاص التي تقذفها أسلحتهم بين زغاريد النساء وصياح الأطفال.
والحق يقال أن هذا الاستقبال المروع قد بعث فينا هممًا. وأثار حمية وألهب مشاعر لم نستطع التعبير عنها إلا بسيل من طلقات أسلحتنا ردًا على جميل حفاوتهم ولطيف ترحابهم.
وفي صعوبة وبطء شديدين قطعت سياراتنا الطريق إلى المسجد لازدحام الطريق بالمجاهدين الذين أبوا إلا أن يتقدموها سيرًا على الأقدام.
وبعد أداء الصلاة في جماعة، زخر المسجد بالأهالي حتى لم يبق فيه موضع لقدم ولقد كنت ترى الناس يتزاحمون على أبوابه ونوافذه بصورة أعجز عن وصفها حتى إذا غشيت الناس سكينة الخاشعين. وعلاهم وقار المؤمنين تليت آيات الذكر الحكيم.
وعلى الأثر وقف الشيخ فهمي الأغا خطيبًا فقال بعد تحية رقيقة.
أيها العرب، أيها المسلمون، نحن اليوم في رحاب الله العلي العظيم ونلتف حول رجل عظيم، وعلم من أعلام العروبة الخفاقة وزعيم من أكبر الزعماء المجاهدين. هو الأستاذ حسن البنا (الرئيس العام) لجمعيات الإخوان المسلمين في العالم. قدم إلينا. وحل ضيفًا عزيزًا علينا يقود فرقة مسلحة أعدها الإخوان المسلمون بوادي النيل فكانت أول فرقة منظمة تصل إلينا. لتدرأ عنا خطر الصهيونية. وتحمي ديارنا من الهجمات اليهودية.
فاسمحوا لي أن أقول لفضيلته باسمكم أن البلاد بلاده، ونحن أهله، وهذه الأوطان أوطانه فليتفضل مشكورًا ليخطب فينا ويتحدث إلينا ويفيض علينا من سحر بيانه وحكيم منطقه ما يقوي عزائمنا ويشق هممنا ويأخذ بناصرنا ...
ونهض فضيلته بين التكبير والتهليل داخل المسجد ورصاص البنادق يدوي في خارجه. فحيًاهم بتحية الإسلام وحمل إليهم سلام إخوانهم في وادي النيل الذين يحبونهم ويشاركونهم الفرح لفرحهم. والألم لألمهم ويحملون أعباء الجهاد معهم وتربطهم عاطفة الأخوة في الإسلام والعروبة.
تلك العاطفة التي لا تحجبها حدود ولا تمنعها مسافات ثم قال:
في عام 1936م عزمت على السفر إلى فلسطين واستخرجت جواز السفر. ولكن قيل لي أنه لا بد لي من تأشيرة القنصلية الإنجليزية، فثارت نفسي. واستكبرت أن أدخل وطنًا من أوطان الإسلام بتصريح بريطاني وعزمت على ألا أدخلها ما دام الأمر كذلك.
وإذا بالظروف تتغير والحوادث تتحول وشاء الله أن ندخل فلسطين بدعوة من الله تبارك وتعالى ثم استطرد فقال: ما جئت اليوم زائرًا ولكن للتشاور والتفاهم في الخطوات العملية لتنظيم القوى وتكتيل الجهود حتى نتحرر وننتصر ونفوز وإن النصر لقريب.
وبعد أن أسهب فضيلته في الحديث عن الإيمان وأوصاف المؤمنين وحذر من عواقب التفاؤل لما طرأ على القضية في مجلس الأمن. وأكد في الأذهان أنه لا حل إلا بالسيف والدم. وأهاب بمواصلة الإعداد والحرص على استكمال معدات القتال: قال:
اتركوا النتيجة لله بعد ذلك. وثقوا أن اليهود وأسلحتهم وحصونهم سوف لا تغني عنهم أبدًا ما دام الله تكفل نصر المؤمنين ثم ختم كلمته قائلاً:
ما كنت أظن أن زيارة عابرة هي للمداولة والمدارسة يكون لها هذا الأثر الكريم في نفوسكم والروعة المتجلية في استقبالكم. ولكن يظهر أن العربي لا ينسى كرمه حتى في اشد حالات المحنة. شكر الله لكم وكتب النصر لكم. وحفظ لكم بلادكم والله اكبر ولله الحمد.
وفي ميدان الجامع الكبير ، وقرب قلعة السلطان برقوق انتظم المسلحون جميعًا في طابور طويل على هيئة فصائل. وعندما توسط فضيلته الميدان. تقدم فاستعرضهم وألقى فيهم كلمة قوية أرهفت لها أسماعهم وغلى الدم الحار في عروقهم حنقًا على الاستعمار وسخطًا على الصهيونية. ثم صافح قائدهم مودعًا وشاكرًا.
ويضيف : وتوجهنا بعد ذلك إلى مقر اللجنة الذي غص بالمستقبلين من أعضائها يتقدمهم الأستاذ عبد الرحمن الفرا، وقاسم الفرا، والمختار الحاج محمد المصري، والمختار مصطفى الفرا، والمختار عيد حسن الأغا والمختار مصطفى عبد الله، وحلمي الأغا وعلي عليان المصري السكرتير الدائم للجنة حيث قدمت المرطبات.
وفي جلسة هادئة اجتمع فضيلته برؤساء لجنة حفظ الأمن، وفروع اللجنة القومية الإدارية والمالية العسكرية.
وكم كان جميلاً ومسعدًا أن تعلم أن قيادة جوالة الإخوان قد تنازلت عن دارها هذه للجنة القومية لتتخذه مقرًا لها. وهكذا الإخوان دورهم في كل مكان في خدمة فلسطين والعاملين لها.
وتناول فضيلته ومن معه طعام الغداء في دار آل المصري استجابة لدعوة الحاج محمد المصري مختارالبلدة. والأخ المجاهد علي عليان المصري.
أما طليعة الكتيبة، فقد رأي قائدها من الأنسب أن تتناول غداءها مما يعده طهاتها من طعام في مقر اللجنة.
أضف تعليقك