لم يكن الجيش المصري مؤهلا للحرب، وفي المقابل لم يكن أمام جمال عبد الناصر إلا أن يدفع بالجيش لأزمة ليحمي وجوده على رأس السلطة، وليضرب ضربته وهو في "أضعف حالاته"!
منذ سنة 1964، دخل عبد الناصر في أزمة مع وزير الحربية عبد الحكيم عامر، فقد تخلص من كل أعضاء مجلس قيادة الثورة واحدا تلو الآخر، واحتشد تنظيم الضباط الأحرار، لينفذ طلبات عبد الناصر في التخلص من كل مناوئيه، ومن يوسف صديق إلى محمد نجيب، مرورا بخالد محيي الدين، وممن كانوا يعتبرون الثورة هدفا نبيلا. كان نجيب ينحاز لفكرة عودة الحياة النيابية، لكن هؤلاء الصغار في الذهاب وفي الإياب، عز عليهم أن يعودوا إلى الثكنات، وقد فتحت أمامهم الدنيا ليركضوا فيها ركض الوحوش في البرية!
وإذا كانوا قد جعلوا من مبادئ حركتهم "القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال"، فقد أنهوا طبقة الباشوات، ليتبوؤوا همهم مكانها ويتجاوزوها إلى طبقة "السوبر باشوات"، بحسب المؤرخ الراحل "حسين مؤنس"، فقد استولوا على القصور المصادرة، لتصبح بيوتهم هم بدلا من أن تؤول ملكيتها للشعب!
كان اتجاه عبد الناصر أن يمسك بالسلطة من أطرافها، وقد دفع ضابطا صغيرا مثله ليكون قائدا للجيش، وهو "عبد الحكيم عامر"، بعد منحه رتبة "المشير"، وكانت ترقيته تستدعي عزل كل من هم أقدم منه، فتم تفريغ الجيش من قياداته، ليصبح "على مقاس" عبد الناصر، وصديقه "حكيم"؛ الذي لم يثق عبد الناصر إلا فيه!
كانت أزمة من بقي من تنظيم الضباط الأحرار حول عبد الناصر هو اكتشافهم الحقيقة المرة بعد فوات الأوان، فقد استخدمهم عبد الناصر لينفرد بالسلطة ويصبح الحاكم الأوحد. وليس صحيحا أن الحكم اتسع لكل الضباط الأحرار، فلم يتشكل مجلس قيادة الثورة في البداية من كل أعضاء التنظيم الذين لم يتجاوزوا المئة عضو، وبعد ذلك تم تشكيل ما سمي بمجلس الرئاسة وحل محل "قيادة الثورة"، ليكون ما اكتشفه اثنان انحازا لعبد الناصر وهو يصفي زملاءهما، أنهما ليسا سوى خيال مآتة. فقد انفرد عبد الناصر بالحكم ويعاونه عبد الحكيم عامر، بينما لا دور لمجلس الرئاسة فاستقالا، وهما "عبد اللطيف البغدادي" و"كمال الدين حسين"، وقد نكل بهما عبد الناصر، بشكل كاشف عن تحلله من قيم المروءة، ويكفي أن نعلم أن زوجة الأول ماتت، وكان في المنفى باستراحة بمنطقة الأهرامات، ولم يتمكن من إسعافها، فقد طلب النجدة ولم يستجب له. أما "البغدادي"، فكان الانتقام من زوج ابنته رجل الأعمال الآن "محمد نصير"، وتم منعه من العودة إلى عمله بالخارج!
كان "البغدادي" و"حسين" من أكثر المنحازين لعبد الناصر في معاركه السابقة ضد المناوئين لنزوة البقاء في السلطة التي تملكته، وعندما ذهبت السكرة وحلت الفكرة، لم يكن معهما أحد يمكن أن يستقويا به في مواجهة هذا الفرعون. فخارج مجلس الرئاسة، كان من الواضح أن عبد الناصر تمكن من عاطفة الجماهير، بخطاب المشاعر الذي كان يجيده، كما كان الجيش قبضته من خلال سيطرة عبد الحكيم عامر عليه!
وعندما استشعر "عامر" أن دوره اقترب، وأن عبد الناصر لا يقبل شريكا في الحكم، حوّل الجيش إلى حزب وحركة مناوئة للرئيس، وخطط لانقلاب عسكري "يتغدى بعبد الناصر قبل أن يتعشى به"!
ومر عبد الناصر بأشرس أزمة في حياته، حيث كان يخاف من الجيش، في الوقت الذي كان يخاف فيه عامر من جيش عبد الناصر، المتمثل في الفقراء الذين كان يجيد مخاطبة عواطفهم، لذا فقد ذهب إلى بلدته (أسطال) في محافظة المنيا، ليكن أقرباؤه على أهبة الاستعداد، عندما تحين ساعة الصفر!
إلى الآن لم نسمع عن عبد الحكيم عامر من طرف محايد. فلأن التاريخ يكتبه المنتصر، فلم نعرف عنه إلا ما روج له إعلام عبد الناصر بعد اغتياله؛ من أنه قائد عسكري مستهتر، ومقبل على الملذات، وكأن دوره في قيادة الجيش تم بالانتخاب، ولم يكن بالاختيار الحر المباشر لعبد الناصر نفسه؛ الذي شوّهت ثورته الملك فاروق، وقدمته على أنه "زير نساء"؛ لم يكن يشغله إلا اصطياد الفتيات، وهو ما كان شاغل عددا من الضباط الأحرار، حتى ضجت واحدة من "الهوانم" من تحرش أحدهم بها، واشتكت مر الشكوى لمجلس قيادة الثورة دون جدوى، فكان شرط أحدهم أن يحميها مقابل أن يكون صديقها، فالآخر كان يذهب مخمورا، فإن لم تستقبله علا صوته في الصياح في منطقة جاردن سيتي، وهو يسب ويلعن ويهدد ويتوعد!
وهي الواقعة التي رواها عبد اللطيف البغدادي في مذكراته، الذي ذكر أن عبد الناصر عندما روى له أحد الضباط الأحرار غرامياته مع واحدة من الهوانم، حيث كان يزورها في منزلها ويترك سيارة الجيش في الشارع، كان كل ما يشغله هو سمعة القوم، ومن ثم عرض عليه القائد أن يعيره سيارته مع كل زيارة لها!
وقد كان الملك فاروق مستهترا في شبابه، ولكن الإطاحة به كانت بعد أن بلغ أشده، وأدرك حجم التحديات الملقاة على عاتقه، باعتباره يتولى قيادة الدولة الأكبر في المنطقة. ومهما كانت جرائمه، فهي لا تعد شيئا مذكورا إذا ما قورنت بجرائم "الحركة المباركة" كما كانوا يطلقون عليها!
وإذا كنا لا نعرف كثيرا عن السمات الإيجابية في شخصية عبد الحكيم عامر، فقد أجمع معظم من كتبوا عنه أنه كان شديد العاطفة، وقد استغل عبد الناصر ذلك فدفعه لتأجيل الصدام. وبعد كل فترة من "الشد والجذب"، كان يجلس معه ويذكره بالأيام الخوالي و"العيش والملح"، ويبكي عبد الحكيم وهو يسمع هذا الحديث، لكن بعد اللقاء يحدث ما يجعله لا يشعر بالأمان أبدا تجاه صديقه القديم!
لقد بدأ الصراع بين عبد الحكيم وجمال عبد الناصر قبل الهزيمة بثلاث سنوات، وكانت الوحدات العسكرية مركزا لتوزيع المنشورات ضد ممارسات ناصر، استعدادا للانقلاب العسكري، وحتى لا يجد عبد الحكيم نفسه خارج الحكم مثل إخوانه، من محمد نجيب، ومرورا بالأخوين سالم (صلاح وجمال) وعبد المنعم عبد الرؤوف، وأخيرا كمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي!
والحال كذلك، فلم يكن لا الجيش ولا القيادة السياسية في وضع يسمح بالحرب، وقد كان عبد الناصر في "أضعف حالاته"، بيد أن القوى المناوئة له لم تكن تدرك هذا، وظلت تتعامل معه على أنه لا يقدر عليه أحد، مع أنه كان كهشيم يمكن أن تذروه الرياح، لكن أين هي الرياح؟ فهل يأتي يوم تدرك فيه هذه القوى أن عبد الفتاح السيسي مع إقدامه على التنكيل بالمعارضة، ليس قويا، وربما يكون بطشه دليل ضعف وليس قوة، فالهجمة الثانية لعبد الناصر على الإخوان، التي لم تبق ولم تذر، كانت في وقت لم يكن الجيش سندا له، ولم يكن القائد المباشر للجيش في وفاق معه، فماذا لو استجاروا من الرمضاء بالنار، واستغلوا إحساس عبد الحكيم عامر بافتقاده للسند الجماهيري؟!
وفق اتجاه التفسير المادي للتاريخ، فإنه إن لم تكن الحرب هدفا لعبد الناصر ليتخلص من خصمه ومن وسواس الإطاحة به بانقلاب عسكري، فإنه هو المستفيد الأول بعد إسرائيل مما جرى، فقد ضعف الجيش بالهزيمة، وفقد بسببها الحاضنة الشعبية، وكان بحاجة إلى من يحنو عليه، وقتل قائده دون أن يتمكن من حمايته، أو يدعو إلى تحقيق محايد في وفاته!
لقد دفعت مصر والعرب فاتورة باهظة، لا تزال الأمة تسددها إلى اليوم، من أجل أن يتمكن عبد الناصر من الاستمرار في سدة الحكم، لتكون الهزيمة هي انتصار البطل، وتخرج الجماهير العريضة تطالبه بعدم التنحي!
ياله من ثمن باهظ!
أضف تعليقك