بقلم: عامر شماخ
لا يعرف فضل وعظمة هذا اليوم إلا من وقفه، وشارك فى مشهده وأدى نسكه، ورأى بعينيه كيف أتى الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والأبيض والأسود، والشرقى والغربى، والعربى والعجمى إلى هذا القفر الموحش ذى الحجر الصلد والشمس الحارقة والأرض المهلكة؛ فأقاموا فيه مؤتمرهم العفوى الحاشد الذى لا يدانيه مؤتمر منذ بدء الخليقة وإلى الآن؛ إذ بدعوة الرجل الصالح أبى الأنبياء يتحول ذلك الوادى الخالى من الزرع والماء إلى سوق كبيرة تضج بالبشر؛ وإذ بتلك البقاع المجهولة التى لم يكن يسكنها إلا الجن والضارى تطنّ بالذكر والابتهال والدعاء.
إنه التفضيل والاصطفاء، والخالق لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء؛ فكما اصطفى الأنبياء والرسل وفضّل بعضهم على بعض، فإنه كذلك اصطفى بعض الأيام والليالى ومنها الليالى العشر وفضّل منها ذلك اليوم، يوم عرفة. وكذلك اصطفى بعض الأماكن، وفضّل منها تلك البقعة التى يحتشد فيها الحجيج؛ فلشرفها إذًا وشرف زمنها جعلها ركن الحج وأساسه فلا تتم الفريضة إلا بالإفاضة إليها فى زمن بعينه والنفرة منها فى زمن محدد كذلك؛ فترى الجموع هادرة فى مشهد كمشهد يوم البعث؛ مشهد لا يخلو من كمال السمع والطاعة، وكمال الخضوع والاستجابة، وكمال العبودية لرب الأرباب الذى أكمل فى الموضع ذاته هذا الدين، وأتم النعمة، ورضى لنا الإسلام دينًا.
ولو أدرك المسلمون فضل هذا اليوم ولِمَ تم اصطفاؤه على غيره من الأيام، ما شقى منهم أحدٌ أبدًا، وما كان حالهم الآن هو حالهم من الضعة والوهن واشتداد أعدائهم عليهم، ورخص دمائهم وأعراضهم وأموالهم. لقد تخلوا عن هدى النبى وصحبه ومن تبعهم فلم يدركوا معنى (عرفة)؛ فإن هذا اليوم هو يوم الوحدة، ويوم الاجتماع، ويوم زوال الخلافات، وهو يوم الاعتصام. تلتقى فيه الأمة فلا تختلف ولا تتفرق ولا تتنازع ولا تتمزق، وهو يوم التعاون على البر والتقوى، وهو يوم المرحمة، ويوم العفو، ويوم العز، ويوم الحرية والفرح.. غير أن كل هذا لا يكون؛ فلا زال المسلمون متفرقين، ذاهبة ريحهم، فاشلين، أرجوحة فى يد أعدائهم. فليس عجيبًا إذًا أنك ترى تلك الجموع ولا ترى أيًا من مقاصد اليوم؛ ما يدل على أن القلوب فى واد غير الوادى الذى خُلقت له، أو أن العقول ليست على الفهم والوعى الكافى؛ ما يجعلها تدرك جانبًا وتجهل آخر؛ تدرك دواءها الشخصى وتجهل دواء الأمة، تقوم بطاعاتها الفردية وما فرض عليها فى هذا الموقف ولا تقوم بما عليها من واجبات إزاء وحدة الأمة، وقوتها وعزتها.
لو أدرك المسلم حقيقة اليوم كما نص الوحى لشمّر فى تحصيل جوائزه، ولسعى لإفادة أمته بثماره؛ فهو أحد أيام الأشهر الحرم، وركن الفريضة، ورأس الأيام المعلومات، صيامه يكفر سنتين، وهو عيد أهل الإسلام كما أخبر المعصوم، وخير الدعاء يكون فيه، يباهى الله بأهله أهل السماء، ويعتق فيه رقابًا من النار كما لم يعتق فى يوم آخر. يقول النبى –صلى الله عليه وسلم- (ما من عمل أزكى عند الله –عز وجل- من خير يعمله فى عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد فى سبيل الله عز وجل؟ قال: ولا الجهاد فى سبيل الله –عز وجل- إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشىء).
ولو هدى الله حكام المسلمين لانطلقوا من هذا اليوم لقيادة الدنيا؛ إذ لو تنافس حكام الأرض جميعًا على من يجمع شعبه بهذا الشكل الذى نراه بعرفة ما نجح حاكم واحد؛ إلا حاكم مسلم جمع الله له قلوب العباد على هذا الشكل من الحماس والصبر والتجرد وحب التضحية لدين الله، ولأوطانهم وأهليهم.. ولا يزال المسلمون فى التيه، ولا يزالون فى التردى والضعة حتى يقيض الله لهم من يجدد لهم الدين، ويرفع عنهم الإصر والأغلال التى ابتدعوها وقيدوا بها أنفسهم وما أنزل الله بها من سلطان.. ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبًا..
أضف تعليقك