بقلم: سامح راشد
- باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط.
"يونسكو".. اتفاقية المناخ.. "أونروا".. "نافتا".. منظمة التجارة العالمية... هذه بعض المؤسسات الدولية والاتفاقيات التي تنظم حياة العالم المعاصر، وتضع قواعد إدارة العالم لتفاعلاته وعلاقاته في مختلف المجالات. ما يميّزها عن بقية المنظمات والمواثيق الدولية أن الولايات المتحدة الأميركية خرجت، أو في طريقها إلى الخروج، من تلك الاتفاقيات والمنظمات، والبقية لاحقا.
عند الانسحاب الأميركي من منظمات ومؤسسات دولية بعينها، كان التفسير هو مُمالأة إسرائيل والانصياع لطلباتها وتحريضها على الفلسطينيين، خصوصاً في ما يتعلق بالانسحاب من "يونسكو"، ثم وقف التمويل الأميركي لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وهو تفسير ربما يكون صحيحاً، إلا أنه لا يكفي لفهم السلوك الأميركي في عهد الرئيس دونالد ترامب، والاستهانة بالكيانات والمؤسسات التي تشكل قواعد النظام العالمي وأركانه، وإدارة العلاقات بين أطرافه. إذ لا صلة لإسرائيل بموقف ترامب من اتفاقية المناخ، ولا بتهديده بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية أو اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية (نافتا).
في عهد ترامب، صارت واشنطن تحدّد جدوى المنظمات الدولية وفعاليتها، وتحكم عليها بالإعدام أو عدم الصلاحية. ليس وفقاً لمعايير أداء المنظمة ونجاحها في تحقيق أهدافها، وإنما بمقياس تلبية مصالح واشنطن، تحديداً كما يراها ترامب. بل إن ترامب يتعامل مع الأمر كما لو كانت عضوية هذه المنظمة أو تلك تخصّه شخصياً، وليست عضوية دولة عظمى.
فضح ترامب نفسه، الخميس الماضي، حين قال، في سياق حواره مع قناة بلومبيرغ: "إذا لم تُعِد منظمة التجارة العالمية تشكيل نفسها سوف أنسحب". ثم عاد، السبت، ليؤكد أنه يشخصن الأمور، ويفرض ذاتيته وتقييماته الشخصية على ملفات ومسائل يفترض أنها سياسة دولة، إذ أبدى اعتراضه على الوضع الراهن لاتفاقية نافتا، قائلاً: "أحب كندا لكنها تستغل بلادنا منذ سنوات عديدة". ما يثير السؤال: ماذا لو لم يكن ترامب يحب كندا؟ وتُرى، إذا كان حبه لكندا أقوى، فهل كان ذلك سيحول دون اعتراضه على وجودها في "نافتا"؟!
تكشف تلك الزّلات على لسان ترامب أن الأسس التي ينطلق منها، في تقييماته وتقديراته السياسية، غير موضوعية، ولا منطق محدّداً يحكمها. حتى بمعيار الكفاءة والمصلحة بالنسبة لواشنطن، فهو دائماً يتهم هذه المنظمة أو تلك بأنها فاشلة أو غير مجدية، من دون تحديد معيار الفشل، أو تعريف الجدوى وعدمها بالنسبة لمنظمة دولية لها أهداف ومبادئ ثابتة، تعمل عليها.
لذا يمكن بسهولة توقع أن تستمر انسحابات ترامب من المنظمات الدولية طوال فترة احتلاله مقعد الرئاسة الأميركية، لنفاجأ بأن الأمم المتحدة نفسها، ووكالاتها الفرعية وغيرها من المؤسسات والكيانات الدولية المستقرّة، صارت مهدّدة بالانهيار لافتقادها موارد البقاء والعجز عن أداء مهامها.
بالتأكيد، لم يسأل ترامب نفسه: ماذا بعد الانسحاب من معظم المنظمات والمؤسسات الدولية؟ هل سيبني ترامب لنفسه ولواشنطن نظاماً عالمياً خاصّاً ومنفرداً، أم أنه يعتبر الانسحاب والعزلة عن النظام العالمي عقاباً رادعاً، لكي يغير بقية العالم أسس ذلك النظام، ويمنح واشنطن موقعاً أكثر تميزاً وقدسية فيه؟
ومن مفارقات عشوائية ترامب، أنه مثلما لا يحدّد أوجه اعتراضه وانتقاداته للمنظمات التي ينسحب منها الواحدة تلو الأخرى، لا يوضح أيضاً خطته البديلة، أو حتى ما على تلك المنظمات والكيانات القيام به، لتلبية مطالب ترامب واسترضائه.
وبالتبعية، لا تملك أي من المؤسسات الدولية الأخرى التي لم تنسحب واشنطن منها بعد، أي تصور أو توقع لما يجب عليها عمله، كي تتجنب غضب ترامب، أو عقابه لها بالانسحاب، أو بوقف التمويل. لأنه هو نفسه لا يعلم ماذا يريد ممن ومتى وكيف ولماذا.
أضف تعليقك