بقلم قطب العربي
لم يعد ما يحدث داخل الأديرة المسيحية المصرية سرا أو أمرا خاصا، ذلك أنه تجاوز الحالة التعبدية الى الحالة الجرمية التي طالت عددا من الرهبان، وسفكت دماءهم، على أيدي بعضهم، وسط محاولات للتغطية على تلك الجرائم، أو التقليل منها، رغم أنها قضية وطنية عامة وليست شأنا طائفيا ضيقا.
كانت الجريمة الكبرى التي هزت نفوس الكثيرين هي مقتل رئيس أكبر دير مصري، وهو الأنبا إبيفانيوس، رئيس دير القديس الأنبا مقار الكبير وتلميذ الأنبا متى المسكين، نهاية تموز/ يوليو الماضي، على يد أحد رهبان الدير الآخرين (أشعيا المقاري)، بعد خلافات مالية وعقائدية. وقد حاول الراهب القاتل الانتحار مرارا لاحقا، لكن زملاءه تمكنوا من إنقاذه، ولا يزال تحت الحبس الاحتياطي. كما حاول راهب آخر على علاقة بالأزمة الانتحار أيضا، بقطع شرايين يده أو القفز من طابق علوي، ولكن تمت السيطرة عليه أيضا. كما تم العثور على جثة أحد الرهبان بجوار دير وادي الريان في الفيوم. وكان أحدث حالات الموت الغامضة هي مقتل الراهب زينون المقاري في دير المحرق بمحافظة أسيوط يوم الخميس الماضي، وهو يعرف بأنه ورد باعتراف للمتهم بقتل الأنبا إبيفانيوس، وذلك قبل يوم واحد من الإدلاء بشهادته أمام النيابة، ولم يتم التوصل إلى معرفة ملابسات الأمر حتى الآن، وإن كان واضحا أن هذه الجرائم كلها مرتبطة بالجريمة الأم.
كانت الانطلاقة الأولى للرهبنة المسيحية في مصر على يد القديس الأنبا أنطونيوس الكبير في بدايات القرن الرابع، عندما أسس الرهبنة في الصحراء الشرقية، ومنها انتشرت في أماكن أخرى، حتى أصبحت مصر مزارا لمن أرادوا استلهام التجرية ونقلها إلى دول أخرى. ويوجد في مصر العديد من الأديرة في الصحراء الغربية والشرقية وفي الصعيد وسيناء، ومن أهم هذه الأديرة دير الأنبا مقار بوادي النطرون، وينسب للأنبا مقار، وهو تلميذ الأنبا أنطونيوس الكبير، ويعود تاريخة إلى القرن الرابع الميلادي. ويعد الأب متّى المسكين الأب الروحي للدير في العصر الحديث، واشتهر الدير ورهبانه بخلافهم فكرياً مع الكنيسة في بعض الأمور اللاهوتية، وحدث صدام بين الدير والكنيسة في عهد البابا الراحل شنودة الثالث. وتبلغ مساحة الدير الإجمالية حوالي 11.34 كيلومتر مربع، شاملة المزارع والمباني التابعة، ويحتوي على سبع كنائس. وملحق بالدير متحف صغير ومشفى ومحطة لتوليد الكهرباء ومطبعة ومكتبة تضم مخطوطات نادرة، وهناك مساكن للعاملين بالدير من غير الرهبان.
حياة الرهبنة تقتصر على العبادة والعمل، والأصل أنها لا تنشغل بأمور الدنيا. فالشخص الذي يدخل سلك الرهبنة يعتبر ميتا، وتتم الصلاة عليه، ويحصل على اسم ديني جديد يختلف عن اسمه القديم. ولكن الرهبنة طالها الكثير من التغيير في العقود الأخيرة، حيث أصبح الرهبان يسافرون إلى الخارج، ويحضرون لقاءات عامة، ولهم حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد كان إغلاق هذه المواقع هو أحد القرارات العاجلة التي اتخذها البابا تواضروس عقب جريمة القتل الأخيرة، ضمن سلسلة أخرى من القرارات لضبط الرهبنة.
من حق الشعب المصري أن يعرف نتيجة التحقيقات في الجرائم الأخيرة داخل الأديرة، ومن حق الشعب أن يعرف ما يجري من تطورات وخلافات داخل الكنيسة أصبحت تؤثر على السلم العام، ولأنها لم تعد مجرد خلافات كهنوتية تنتهي عند أسوار الكنيسة أو الدير.
من الواضح أن هذه المشاكل كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء حالة الاستنفار الكبرى التي قادتها قيادة الكنيسة بشكل مباشر؛ لحشد أقباط المهجر لاستقبال السيسي في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، فهذه القيادة تريد من السيسي دعمها في هذه الأزمة، وعدم الانحياز للأطراف المناوئة لها، أو حتى مجرد الحياد بينهم، بل إن قيادة الكنيسة ربما خشيت من استغلال السلطة لهذه الأزمة لابتزازها؛ استلهاما لخبرة الحكم العسكري السابقة في التعامل معها. وبالتالي يظهر أن الأحداث والجرائم التي تتم داخل الأديرة لم تعد تؤثر على المجتمع القبطي فقط، بل على المجتمع المصري كله، فها هي قيادة الكنيسة تبالغ في دعمها للحكم العسكري وما يقترفه من جرائم بحق الشعب، وهي تستهدف من ذلك رضى النظام حتى لو أغضبت غالبية الشعب.
لا يمكن إغفال قيمة الدور الذي يقوم به نشطاء أقباط في كشف ما يجري، ونقله للعامة خارج أسوار الأديرة والكنائس، إما بدافع وطني حقيقي، أو بدافع الانحياز لأحد الفريقين المتصارعين داخل الكنيسة؛ وهما تيار الأنبا متى المسكين وتيار الأنبا شنودة، أو ما يسمى تيار التجديد والتيار المحافظ (الحرس القديم). فالراهب القتيل ينتمي لتيار الأنبا متى المسكين، وهو من أقرب تلاميذه، ويبدو أن القاتل ينتمي لتيار البابا شنودة. وضمن ملامح ذلك الخلاف، حسب أحد الرهبان، أن "الحرس القديم يمكن وصفهم بالمحافظين أو الراديكاليين، ومواقفهم أكثر تزمتاً وتشدداً حيال كثير من القضايا الدينية والسياسية إلى حد بعيد، خصوصاً ملف المصالحة والتقارب مع الكنائس الأخرى. أما الفريق الآخر فهم مع المصالحات والتقارب". لا يمكن بطبيعة الحال تأكيد هذه الرؤية التي تمثل غالبا طرفا في الأزمة، في حين سيكون للطرف الآخر رؤية مخالفة.
يمكن للنشطاء الأقباط الوطنيين المساهمة في كسر الأطواق التي فرضتها قيادة الكنيسة لعقود طويلة حول عموم الشعب القبطي، واعتبرت نفسها حزبه السياسي، وناديه الاجتماعي، ودار عبادته، وعزلته عن محيطه المجتمعي في "جيتو" يمنح تلك القيادة سلطة لا محدودة، ويجعلها الممثل الرسمي والوحيد للأقباط تجاه الدولة، وهو ما يزيد حالة العزلة، والشعور بالاضطهاد، ويزيد مشاعر الكراهية والإحباط، وهو ما يدفع المجتمع كله ثمنه في النهاية فتنا طائفية وعداوات ثأرية.. الخ، وهو ما نرفضه ولا نتمناه أبدا لوطننا.
أضف تعليقك