ما يشبه الحاكم، لما يشبه مصر، يأبى إلا أن يصل بالماضي والحاضر إلى قاع الابتذال والإهانة لكل ما هو حقيقي وأصيل في تاريخ هذه البلاد.
لا يحيد عبد الفتاح السيسي عن الرواية الصهيونية لتاريخنا، فيتحدث عن حرب أكتوبر 1973 باعتبارها القرار الانتحاري الذي لم يكن هناك ما يسنده من معدلاتٍ للقوة على أرض الواقع، وكأنّ قرار بدء المعركة كان قفزًا في المجهول، من دون حساباتٍ عسكرية، أو سياسية، منطقية، وكأن الأمة بوغتت بأنها حاربت وانتصرت، سيرًا عكس المنطق والمفترض.
يقول السيسي إن مصر والعرب كانوا أشبه بسيارة ماركة (سيات) في مواجهة (مرسيدس) إسرائيل، أو بإيضاحه العلمي الرصين (الحكاية كانت كده واحنا كده وبالرغم من كده عملنا كده)، ومن ثم كان العبور معجزة، وليس حصادًا للعمل والجهد والدراسة والتخطيط، وقبل ذلك وبعده إيمان أمةٍ بالقدرة على الانتصار واسترداد الكرامة.
هذا هو جوهر الطرح الصهيوني: العرب لا قبل لهم بمواجهة الاحتلال الصهيوني، وأن ما جرى كان بمثابة غلطةٍ مطبعيةٍ في كتاب التاريخ، وهو الطرح الذي يردّده السيسي الذي لم يكن هناك، حين حارب العسكريون الحقيقيون، بل كانت الحرب الوحيدة التي عرفها حربه ضد المصريين السلميين في الاعتصامات الرافضة انقلابه، والتي راح ضحيتها آلاف الشهداء الأبرياء العزل.
لا يعرف السيسي تاريخ مصر، ولا تاريخ العسكرية المصرية، وإن عرف عنه القليل فإنه يعمد إلى إهانته وابتذاله، حين يروّج أن المقدمات السابقة على أكتوبر 1973 لم تكن لتؤدي إلى النتيجة المتمثلة في العبور والانتصار، بصرف النظر عن أن السياسة بدّدت الإنجاز العسكري.
يقول لنا التاريخ إن حرب الاستنزاف الخالدة اشتعلت بعد قليل من هزيمة يونيو/ حزيران 1967 محققة خسائر فادحة للعدو، ومهيئة القدرة العسكرية المصرية والعربية للتعافي والاستعداد للمعركة الكبرى من أجل الثأر، بل إن جمال عبد الناصر كان يواجه إحراجاً شعبيًا هائلًا بقبول مبادرة روجرز، والتي أصابت الجماهير بالغضب من تأخير المعركة.. وحين مات جمال عبد الناصر وجاء أنور السادات، كان المعلن أن 1971 هو عام الحسم، فلما تباطأ اندلعت تظاهرات غاضبة في أرجاء الجامعات المصرية ضد ما سميت حالة اللا سلم واللا حرب، فيما عرف بعام الضباب، وخصوصًا بعد الإعلان عن استكمال القوة العسكرية وجهوزيتها لمعركة الثأر والتحرير.
لم تتحمّل الجماهير الغاضبة منطق أنور السادات في خطابه في 13 يناير/ كانون الثاني 1972، مبررًا عدم قدرته على تنفيذ الوعد بجعل 1971 عامًا للحسم مع إسرائيل باندلاع الحرب الهندية الباكستانية، والزعم إنه لا مجال في العالم لتحمّل نشوب حربين كبيرتين في آن واحد، وانشغال الاتحاد السوفيتي بالحرب الهندية الباكستانية إلى الحد الذي لا يستطيع فيه تقديم مساعدة لمصر، وأن هذه الحالة كالضباب الذي يعيق القدرة على التحرك.
كان الكل، مدنيين وعسكرين، في شوقٍ إلى بدء المعركة المحتومة، وكان اليقين يملأ الجميع بالقدرة على الانتصار، وأن تأجيل المعركة هو الانتحار بعينه.
وحده، عبد الفتاح السيسي، ترديدًا لمنتجات أبواق الدعاية الصهيونية، يعتبر قرار الحرب انتحارًا، لا تدعمه موازين القوى، وكأنها حرب جيشٍ ضد جيش، وليست معركة شعبٍ يشعر بالإهانة، ويتطلع إلى الثأر للكرامة المجروحة، مغفلًا بذلك الجماهير بوصفها قوة جبارة في معادلة الصراع.
ذلك هو مربط الفرس، وهدف الصهاينة والسيسي النهائي: لا مكان للجماهير في المعركة، وبما أن ثورة يناير2011 أعادت الجماهير إلى الواجهة، طرفًا في المواجهة، فقد كان ضروريًا إعلان الحرب على يناير، وعلى الربيع العربي كله، الحرب على الجماهير، لإعادتها إلى حدود العجز والاستلاب والقهر والخوف.
ولذلك كان يناير 2011 امتدادًا لأكتوبر 1973، كلهما تعبير عن روح مصرية عربية أصيلة، فيما كان السيسي ومشروعه الانتقامي في 2013 حاجًة صهيونيًة بامتياز وانتصارًا لإسرائيل.
أضف تعليقك