قالوا في الأمثال: "الكذب ليس له رجلين"، بيد أن أهل الحكم في المملكة العربية السعودية، كذبوا واختلطت في أذهانهم الروايات، وضاقت مساحة المناورة، فلم يعودوا يعرفون ماذا يفعلون!
"أين الجثة؟" كان من الأسئلة التي طُرحت مبكراً، واستمر طرحها حتى الآن. وفي اللحظة التي اعترف فيها الجانب السعودي بمقتل "جمال خاشقجي" داخل القنصلية، أعيد طرح نفس السؤال، فكانت الإجابة بعد دقائق: لقد ارتبك الجناة فسلموها لمتعهد محلي، وهو من تصرف فيها. ومن هنا ينبغي إعفاء القوم من الإجابة على سؤال: "أين الجثة؟"، لكن موضوع "المتعهد المحلي" تحول إلى "نكتة" أضحكت الثكالى، فمن هو "المتعهد المحلي" الذي يقدم على خطوة كهذه، والدفن يحتاج لإجراءات، وفتح المقابر لا يتم بدون تصريح، وهي إجراءات تكاد تكون متشابهة، في كل بلاد العالم؟!
من هو "المتعهد المحلي؟"، سؤال صار يأتي في ذيل سؤال "أين الجثة؟"، وتغيرت رواية القوم، لكن ظل السؤالان مطروحان بلا إجابة، والإنكار هو سيد الموقف بدون مبرر!
أهمية العثور على جثة شهيد الصحافة "جمال خاشقجي"؛ في البداية هو لإثبات أن الرجل قتل، وكانت التسريبات التركية توحي بأن الأتراك عثروا على جثته، وذلك عندما كانت الرواية السعودية تصر على أن "خاشقجي" تسلم الوثيقة الخاصة بحالته الاجتماعية من القنصلية وانتصرف من الباب الخلفي، وانتفى مبرر وجوده فيها. وظلت أهمية سؤال "أين الجثة؟" قائمة بشكل ملح بعد الاعتراف بمقتل صاحبنا داخل القنصلية، وأنه قتل خطأ، فالفريق السعودي المكون من خمسة عشر شخصاً كان يقنعه بالرجوع للرياض، فلما علا صياحه، بعد أن تجاوز "المطرب" حدود المهمة وهدد بتخديره، لم يكن أمامه من سبيل لاسكاته سوى أنه وضع يده على فمه فمات في التو واللحظة، وفوجئ الفريق بذلك، فتخلص من الجثة عن طريق "المتعهد المحلي"، مجهول العنوان، دون أن يوجه سؤال للقوم: وأين عثروا على هذا "المتعهد؟"، فليس معقولاً أن يكونوا قد وجدوه مصادفة في الشارع، باعتبارها "محاسن الصدف"، وتعرفوا عليه لأنه مكتوب على جبينه "حانوتي"!
التفاوض مع المعارضين
الحديث عن الصياح هو للرد على التسريبات التركية بأن التسجيلات التي في حوزة السلطات هناك يُسمع منها صراخ من قبل "خاشقجي"، وأنه من الواضح أنه يتعرض للحقن بالإبر، فأخذت الرواية السعودية هذا في الحسبان.. فالتهديد بالحقن هو تجاوز من قبل أحد أعضاء الفريق لحدود مهمته، والصراخ نتيج بسبب هذا، والصمت والموت كان بالخطأ بأن وضع العضو يده على فم الضحية بهدف إسكات صياحه، فلفظ أنفاسه الأخيرة. فنحن أمام قتل بالخطأ، ويفتقد للإصرار والترصد والنية المسبقة!
فالفريق كان في مهمة رسمية لإقناع "خاشقجي" بالعودة لبلاده، وقد كلف ابن سلمان المخابرات في وقت سابق من قبل ولي العهد، فسافروا لتركيا لإقناع خاشقجي بدون علمه، باعتبار أن لديهم موافقة مفتوحة، ولم يقولوا ومَن مِن المعارضين الآخرين حاوروهم؟!
سؤال "أين الجثة؟" والرواية هكذا، كان يستهدف إثبات ضحة الرواية التركية، بأن "جمال خاشقجي" قد قتل عمداً، وتم التمثيل بجثته، ومن هنا فإن الإنكار السعودي كان له معنى، لكن المشكلة في أن هذا الإنكار استمر إلى الآن!
فالعثور على الجثة فيه جانب أخلاقي، نعم، ولكن ليس له قيمة من الناحية القانونية، فلم يعد يؤكد شيئا يحتاج لتأكيد بعد الإعلان السعودي بأن القتل تم بنية مسبقة، أي أن الوفد المكون من خمسة عشر شخصاً، سافر لمهمة التخلص من "جمال خاشقجي"، ولم يكن في مهمة للتفاوض والحوار، تنفيذاً لتكليف سابق من ولي العهد بإقناع المعارضين للعودة إلى بلادهم!
وظلت تركيا تطرح سؤال "أين الجثة؟"، ويرد السعوديون: تم تسليمها لمتعهد محلي؟ ليكون السؤال "من هو المتعهد المحلي"؟!
مكانة الجثة
ويستطيع السعوديون أن يفصحوا الآن عن مكان الجثة، وقد اعترفوا بأن القتل تم بنية مبيتة، وأي شكل ستكون عليه الجثة مع توافر البشاعة، من المفترض ألا يمثل إدانة سوى للمتهمين الثمانية عشر، لكن أهل الحكم في السعودية في ارتباك يمنعهم من الإفصاح عن مكان الجثة، وهناك متهم تقرر له أن ينوب عن "ابن سلمان" في تحمل وزره، باعتباره من أصدر التعليمات للوفد بالسفر والقتل، وهو الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات السعودي، ولن يخفف عنه العقاب القانوني عدم العثور على الجثة، فهو من أصدر الأوامر بالقتل مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما أكدته الرواية السعودية!
"الجثة" قد تكون في تركيا، أو في المملكة، وقد يكون قد تم التخلص منها تماماً، ولن يؤثر على الموقف القانوني للجناة القتلة، الرد على سؤال "أين الجثة؟"، لكن مشكلة الجانب السعودي أنه قرر تماما ألا يجيب، وكأنه عند الراوية السابقة الخاصة بأن القتل تم عن طريق الخطأ، وبوضع اليد على فم "خاشقجي"، وهو الأمر الذي أفضى للموت في التو واللحظة!
كما أن الجانب التركي وقف عند هذه الرواية الخاصة بأنه قتل يفتقد لركن العمد، واستمر في طرح سؤاله: "أين الجثة؟".. "أين المتعهد المحلي؟"، ولم يلتفت إلى ما أنتجه الاعتراف الأخير من آثار، أخصها أن سفر الوفد تم بناء على تكليف سابق لولي العهد بالتفاوض مع المعارضين!
يمكن الرد بأن الراوية الأخيرة التي اعترفت بأن القتل تم بنية مسبقة؛ هي ما توصل إليه النائب العام السعودي بعد التحقيق مع المتهمين، لكن في المقابل نحن أمام سلطة مارست التستر عندما قالت إن الوفد سافر لإسطنبول بناء على تكليف سابق لولي العهد بإقناع المعارضين بالعودة إلى الرياض، فهل هناك تكليف فعلا؟.. وإذا كان ما أقدم عليه الوفد كان هو القتل العمد، فلماذا تم ستر الجناة بطرف الثياب عندما قيل إن سفرهم كان بناء على هذا التكليف من ولي العهد؟!
عبد مأمور
النائب العام السعودي وصل إلى تركيا، والأتراك سيكون سؤالهم الأثير: "أين الجثة؟"، وما ينتجه من سؤال فرعي هو "من المتعهد المحلي؟"، ويكون المهم هو الطلب التركي بمحاكمة المتهمين أمام القضاء التركي، ما دامت جهات التحقيق في المملكة لم تنجح في الحصول على إجابة منهم على السؤالين؟!
السعوديون يدركون أن الأتراك لديهم قرائن على من أصدر الأوامر بالقتل هو "محمد بن سلمان" وليس "القطحاني"، الذي هو مع ارتفاع شأنه الوظيفي هو "عبد المأمور"، ولا يوجد سوى "مأمور" واحد في المملكة هو "حمادة"!
والأتراك لن يخبروا المدعي العام السعودي بشيء من هذا، فلا تزال بأيديهم أوراقاً للعلب، ومثل هذا الكلام عن "محمد بن سلمان" سينهي اللعبة، ويحكم الحصار على القط المحبوس، وهنا ينتقل السعوديون إلى مرحلة اليأس من إمكانية استمالة الأتراك، وما ينتجه من إعلان العداء، وهو ما لا يريده أردوغان الذي حصل بالمناورة أكثر مما كان يمكن أن يحصل عليه باإعلان الحرب. وكما قيل، فإن الرجاء عبد واليأس حر!
ناور الجانب التركي، فتغيّر الموقف السعودي إلى الاعتراف الجريمة، بعد إنكار قتل "جمال خاشقجي"، واتهام الأتراك وقطر، وربما الإخوان، في إعلام المولاة بأنهم من أخفوه، وفي قول آخر قتلوه، فكان الاعتراف السعودي بأن القتل العمد تم داخل القنصلية السعودية في إسطنبول!
وقال أهل الموالاة بأن الخمسة عشر شخصاً كانوا في رحلة سياحية، وأن الأتراك يتربصون بالسياح، ثم اعترفوا بأن هذا الوفد كان لمهمة التفاوض، قبل أن يعترفوا بأنه من قتل "خاشقجي" في البداية على سبيل الخطأ، ثم اعترفوا بأن القتل تم مع سبق الإصرار والترصد!
الأتراك يريدون أن "يشدوا الوثاق" حتى يعترف السعوديون أنفسهم بأن من أصدر الأوامر بالقتل هو ولي العهد "حمادة"، وربما لا يريد السعوديون الوصول إلى هذه المرحلة سريعاً إذا قالوا أين الجثة!
إنه مسلسل تركي طويل الحلقات!
أضف تعليقك