بقلم.. قطب العربي
كان المنظر مؤلما جدا.. جنود إسرائيليون يطرحون راهبا أرضا، يضعون وجهه على الأرض أمام الكاميرات، ثم يقتادونه مكبلا إلى مقر احتجاز، بعد أن اعتدوا بالضرب على رهبان آخرين.. لم يفعل الراهب القبطي وزملاؤه شيئا سوى أنهم دافعوا عن ديرهم الذي ينتمون إليه (دير السلطان) في القدس القديمة، وهو الدير الذي انتزعته سلطات الاحتلال الإسرائيلي من الرهبان المصريين وسلمته على طبق من ذهب للرهبان الإثيوبيين، رافضة تنفيذ العديد من أحكام المحكمة العليا بإعادته للمصريين.
ردود الفعل الكنسية والحكومية المصرية كانت باهتة، وليست في مستوى الحدث، فالنظام الحاكم لا يريد إغضاب أصدقائه الصهاينة الذين هم أولى وأهم لديه من المسيحيين، رغم كل ما قدموه ويقدمونه له من دعم، والكنيسة من ناحيتها لا تريد إغضاب النظام الحاكم الذي ارتمت في أحضانه وباعت نفسها له بشكل كامل، ولا تستطيع الخروج من عباءته، مهما بلغ غضب رعاياها الأقباط من هذا الموقف.
من يعتذر لمن؟
كان المتوقع وصول وفد إسرائيلي إلى القاهرة لتطييب خاطر المسيحيين وكنيستهم، والاعتذار عن إهانة الرهبان، لكن ما حدث هو ذهاب وفد كنسي مصري إلى القدس بدعوى التفاهم حول مشكلة الدير، وليس مستبعدا أن يقدم الوفد اعتذارا للحكومة الإسرائيلية عن "تهور" الرهبان الأقباط في مواجهتهم لجنود الاحتلال الإسرائيلي!!
من الواضح أن المخابرات المصرية هي التي رتبت هذا اللقاء لوفد كهنة الكنيسة المصرية، حتى لا تسمح للأزمة بالتصاعد، ولا تدع فرصة للمسيحيين الغاضبين للتعبير عن غضبهم، والضغط على قيادتهم الكنسية، كما أن الجهة التي رتبت الزيارة لا تريد توترا في علاقة سلطة السيسي مع الكيان الصهيوني؛ في وقت هي أحوج ما تكون فيه لدعم ذلك الكيان الذي يمثل المصدر الرئيسي لدعم السيسي، ودعم حلفائه الآخرين وعلى رأسهم محمد بن سلمان.
كان موقف النظام من الأزمة باهتا، وقد عرفنا تفسير ذلك، لكن الغريب هو موقف قيادة الكنيسة القبطية التي يتبعها هذا الدير، وهو موقف باهت أيضا يختلف تماما مع موقف قيادتها السابقة؛ التي قررت في العام 1980 تحريم زيارة الأقباط إلى القدس حتى يعود الدير إلى سلطتها، وهو القرار الذي ظل معمولا به في مصر لسنوات عديدة طيلة حياة البابا شنودة، وفي الحالات النادرة التي اخترقت القرار تم حرمان أصحابها كنسيا، ولم يصلّ عليهم عند وفاتهم، لكن رأس الكنيسة الحالي، الأنبا تواضروس، كان أبرز المخترقين لقرار المجمع المقدس؛ بزيارته للقدس في العام 2015 بدعوى حضور عزاء مطرانها الأنبا إبرام، وهي حجة لا تنطلي على عاقل، فكم من كاهن توفي منذ العام 1980 ولكن البابا شنودة ظل رافضا لزيارة القدس، بل إنه حوّل المنع إلى قضية وطنية وقومية عامة، وأطلق مقولته بأنه لن يزور القدس إلا بعد تحريرها بصحبة المسلمين، ولذلك أطلق عليه الكثيرون "بابا العرب".
بين شنودة وتواضروس
الشاهد، أن قضية دير السلطان استحقت من الكنيسة المصرية في عهد البابا شنودة موقفا حازما، فكان قرار منع زيارة القدس للأقباط ردا على التعنت الإسرائيلي برفض تسليم الدير للرهبان الأقباط. أما البابا تواضروس، فقد كسر بنفسه ذلك القرار، وبالتالي أرسل رسالة إلى إسرائيل بأنه شخص متساهل، ولن يكون له رد فعل كسابقه. ولذلك، فحينما حاول رهبانه في الدير التصدي لبعض عمليات الترميم التي تقوم بها سلطات الاحتلال لصالح الرهبان الإثيوبيين، فإنه اكتفى بالشجب والإدانة حتى لا يحرج رئيسه عبد الفتاح السيسي؛ الذي لا يريد بدوره أن يغضب أصدقاءه الصهاينة في قضية كهذه لا تستحق الكثير من وجهة نظره.
دير السلطان يحتل مكانة خاصة عند المسيحيين الأقباط وعند المسلمين أيضا، فهو الدير الذي منحه السلطان الناصر صلاح الدين للأقباط بعد تحرير القدس من الصليبيين، تقديرا لدور الأقباط في مواجهة تلك الحملة، ولذلك سمي باسمه "دير السلطان"، وهو دير أثري يقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في حارة النصارى بجوار كنيسة القديسة هيلانة وكنيسة الملاك والممر الموصل من كنيسة هيلانة إلى سور كنيسة القيامة.
وقد استضاف الرهبان الأقباط في الدير بعض الرهبان الكاثوليك منذ أواخر القرن السابع عشر، بسبب عجز الكنيسة الإثيوبية عن دفع الضرائب المستحقة لبعض مقراتها، واستمرت العلاقة لاحقا بين شد وجذب بين الطرفين، حتى العام 1970، حيث منحت سلطات الاحتلال الدير بالقوة للرهبان الإثيوبيين نكاية في الأقباط المصريين الذين كانوا منحازين لموقف الدولة الرسمي المعادي لإسرائيل. ورغم أن المحكمة العليا الاسرائيلية قضت بعودة الدير إلى المصريين، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة رفضت تنفيذ الحكم. وبعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وجدت الكنيسة القبطية أن الاتفاقية أو العلاقات المصرية الإسرائيلية الدافئة لم تنعكس إيجابا على قضية الدير، ونظرا لحالة الرفض الشعبي الواسع لتلك الاتفاقية، فقد استغل البابا شنودة هذه الأجواء ليستصدر قرارا من المجمع المقدس عام 1980 بمنع زيارة الأقباط إلى القدس حتى يعود دير السلطان.
"قضية هامشية"!
استقبلت النخب المصرية قرار المجمع المقدس بترحاب باعتباره قرارا وطنياا وليس مجرد قرار ديني، وحتى النظام الرسمي لم يجد في الأمر تحديا له بعد مقتل السادات عام 1981. وكانت قضية دير السلطان قضية وطنية تشغل اهتمام الإعلام المصري والأحزاب المصرية، لكنها تحولت إلى قضية هامشية الآن، ولم يصدر رد فعل رسمي أو كنسي يوازي جريمة سحل لرهبان المدافعين عن الدير. وحين طرح بعض نواب البرلمان المسيحيين بيان إدانة، لم يجدوا سوى نائب مسلم واحد وقع البيان مع 23 نائبا قبطيا، ولم يصدر البرلمان بيانا، أو يفتح مناقشة للموضوع؛ لأنه لم يتلق التعليمات من الجهات الأمنية التي صنعته.
حين وقع الانقلاب العسكري في الثالث من تموز/ يوليو 2013، كانت الكنيسة ضلعا أساسيا فيه؛ كانت شراكة بينها وبين النظام العسكري يوفر بمقتضاها ها النظام لرعاياها الأمن، ويستجيب لطلباتها في بناء أو ترميم أو تقنين كنائس، ولكن ما حدث هو تعرض المسيحيين لمزيد من الاعتداءات حتى فاقت جملة الاعتداءات ضدهم بعد الانقلاب كل ما وقع خلال 30 عاما من قبل. وحين انفض غالبية أنصار السيسي من حوله، بقيت الكنيسة على موقفها، وسارعت لحشد من تستطيع لاستقباله في نيويورك. وباستثناء تلك الكنائس التي وافق السيسي على بنائها أو ترميمها، فإنه لم يستطع أن يوفر أمنا للأقباط في الداخل، ولم يستطع الذود عن ديرهم في الخارج.
واجب الأقباط أن ينحازوا لفكرة الدولة المدنية الحديثة التي تنقل مصر من حالة الضعف والتبعية إلى حالة القوة والعزة، والتي يتمكنون فيها من نيل حقوقهم عبر الآليات الدستورية والقانونية، وعبر مشاركاتهم النشطة في الأحزاب والنقابات، والبرلمانات والمحليات، وحينها سيجدون من عموم الشعب سندا لمطالبهم العادلة، كما ستصبح قضية كقضية دير السلطان قضية وطنية تشغل الجميع، ويمكن إعادة الدير للرهبان المصريين.
أضف تعليقك