بقلم: جمال عبد الستار
عَمَد النظام السعودي منذ نشأته إلى استغلال العاطفة الدينية العميقة لدى سكان الجزيرة العربية، ليدعم بها سلطته وسطوته. ومن صور هذا الاستغلال أنه تبنى منهجية خاصة في فهم الإسلام، وعمل جاهداً على دعمها وتوطينها ونشرها. ولم يكن ذلك إلا لمصلحةٍ سياسيةٍ وترتيبات خارجية مع الأمريكان والغرب، كما صرح بذلك ابن سلمان نصا!
وأستطيع من خلال دراستي لهذه الحالة أن أسمي تلك المنهجية بالإسلام السعودي؛ لأنه فَهم خاص ومنتج خاص؛ تستطيع أينما ذهبت إلى أيّ بقعة في العالم أن تتعرف على موطن نشأته، من خلال ملامحه الثابتة وشكله المستقر الذي تدثر بالسلفية، وما هو من السلفية في شيء! وتظاهر بالالتزام، وما هو من الالتزام في شيء!
ولقد جلستُ يوماً مع طلابي الوافدين بجامعة الأزهر قبل عودتهم إلى بلادهم، وكانوا يمثلون ما يقرب من عشرين جنسية، وكنت أشرح لهم أولويات الإصلاح والدعوة، وطلبت من كل واحد منهم أن يرتب منفرداً أبرز العقبات الدعوية التي يراها في بلاده، ففوجئت بأن القاسم المشترك بينهم في ترتيب العقبات الدعوية تمثَّل في أقرانهم الذين درسوا في السعودية، حيث اشتكوا جميعا من منهجيتهم في الدعوة، وشدة اصطدامهم بالناس، وعدم إدراكهم لواقع أقوامهم، وضيق أفقهم، وغلظة طبعهم، وحصر فهمهم للإسلام في بعض المظاهر دون الحقائق، فكأن لسان حالهم يقول: العقبة الأخطر في طريق دعوتنا تتمثل في الإسلام السعودي!
ومرة أخرى دخل عليَّ طالب في جامعة الأزهر ورأيته مرتدياً الزّي السعوديّ، فسألته: هل أنت من السعودية يا بني؟ فقال لا، أنا من الصعيد! فسألتُه متعجبا: لماذا تلبس ثيابا سعودية؟! فقال: يا دكتور هذا هو الزيّ الإسلاميّ! فقلت له متعجباً: هل قرأتَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لبس غُطرة حمراء أو بيضاء؟ قال: لا، قلت له: فماذا إذاً؟! يا بني إنها عادة قوم وليست تكاليف دين، فإما أن ترتدي ثياب الأزاهرة، أو ترتدي ثياب المصريين.
وهكذا، فقد تبنى النظام السعودي فهما خاصا للإسلام، وعمل على تأصيله ونشره بكل ما أوتي من قوة في أنحاء العالم، ولم تسلم بقعةٌ من بلاد المسلمين إلا غزاها بفكره وأثّر فيها بنهجه، وقد تلبّس هذا الفكرُ بالنظام حتى صار كل واحد منهما يدل على الآخر، بدايةً من العلَم الذي حمل شهادة التوحيد، ومروراً بالآراء الفقهية والعقدية، ونهاية بنبرة الصوت والجلباب والغطرة والشبشب! حتى أنك كثيراً ما تجد في أقصى بلاد الهند أو إفريقيا أو أوروبا أو الصين أو غيرها؛ من يلبس الثوب السعودي والغطرة، دلالة على أنه شخص متدين وملتزم!
وإذا كان فعل العوام لهذا الأمر مفهوما، فلا أتفهم حرص الدعاة المشهورين، وبعض العلماء المبرَّزين في دول العالم المختلفة على التلبّس بالصورة السعودية في الشكل والمضمون!
فقل لي مثلاً: لماذا يلبس محمد حسان وأمثاله الثوب الأبيض والغطرة الحمراء والبيضاء وكذا الشبشب دلالة على كمال الالتزام وهو ليس عادة قومهم، وكذا لا أثر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتسويق ذلك للناس على أنه اللباس الإسلامي؟! فهل لبِسَ النبي غطرة بيضاء أو حمراء يا قوم، أو لبس شبشبا بأصبع واحدة؟!
بل الأعجب، أن بعض الغلمان تراه يرفع الأذان في قريته أو بلده بصوت مفزع، ولهجة بدوية قاسية، فتسأله عن علة لكنته، فما تجد إلا أنه سمع بعض المؤذنين في السعودية (ممن لم يرزقهم الله بصوت حسن)، فظن أن السنة في تقليدهم، وما قرأ في السنة أن الرسول طلب أن يؤذن بلال لأنَّه الأندى صوتاً!
إن الفهم السعودي للإسلام، والذي تدرج من تحريم التلفزيون إلى تحريم التلفون إلى تحريم وتجريم قيادة المرأة للسيارة زمنا طويلا، انتهى إلى إباحة المعازف والمراقص وقتل الأبرياء والتنكيل بالعلماء وموالاة المحتلين ومعاداة المجاهدين ودعم الطغاة والمستبدين، والتعدّي على الجيران بالطائرات والقاذفات والقنابل حيناً، أو بحصار البعص الآخر براً وبحراً وجواً وطعاماً وشراباً وحجاً وعمرةً، ولو استطاع أن يمنع الهواء لفعل!
هذا الفهم الذي صنع أسوأ حالة انفصام في العالم، حيث أخرج منتَجاً للالتزام لا تجد له مثيلاً في العالم. فقد رأيتُ في كثير من السفريات بعضا من الفتيات والنساء في مطارات المملكة يرتدين النقاب الأسود الذي لا يسمح إلا بعين واحدة لروية الطريق، فإذا أقلعت الطائرة تغيرت الأحوال تماماً، إلى حدّ المبالغة في التبرج بارتداء الملابس الفاضحة والأصباغ الفاقعة والعطور الفواحة! فهذا الانفصام لم أشاهد له مثيلاً في العالم!
إن الإسلام الذي يبيح للأمراء أن يسلبوا أموال الناس بغير حق، وأن يسفكوا دماء الخلق بدون سند، وأن يعتقلوا العلماء والفقهاء والمفكرين والنابهين بدون جريرة، وأن يدعموا كل صور الاستبداد والطغيان في العالم، وأن يستولوا على بيت الله الحرام، فيدخلون من يريدون ويمنعون من يريدون، ليس هو الإسلام الذي رضيه الله ديناً، وليس هو الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم.
ليس هذا هو الإسلام وإن دَعَا له إمام الحرمين، وسانده المتاجرون بالدين، واستخدم ألقابَ العابدين، ورفع أعلامَ المجاهدين.
فالإسلام جاء لتحرير الإنسان وليس لاستعباده.. جاء لتكريمه وليس لإذلاله.. جاء لحمايته وليس لتقطيعه.. جاء لرحمته وليس لتعذيبه.
لقد شغل الاسلام السعودي الأمة زمناً طويلاً بقضايا خلافية، ومظاهر شكلية، وأنتج جيلاً مشوَّهاً يعيش كل صور التناقض، ويسقط صريع التشدد، في الوقت الذي لم يستخدم قوته وعتاده يوماً لمواجهة عدوّ محتلّ، أو نصرة مظلوم مستغيث، أو تحرير مقدسات مسلوبة، بل استخدمها لحماية عرشه، وتعظيم مكاسبه، وتحقيق أطماعه، وإعانة الظالمين، ودعم الطغاة المستبدين!
وما كان من خير في هذه المجالات فهو من فعل الشعب المِعطاء الذي وصل خيرُه إلى كل الأصقاع، رغم كل العقبات، ومن فِعل المخلصين من العلماء الذين غلّ الطغاةُ أيديَهم وكمّموا أفواههم.
فهل تستيقظ الأمة من غفلتها، وتدركَ كيف قامت أنظمة الطغيان باستغلالها، وكيف احترفوا التدليس عليها، واستغلوا عاطفتها ونهبوا ثرواتها وتلاعبوا بهويتها، فكانوا وكلاء المحتلين وأذناب المفسدين، ولم يتركوا لها شيئا حتى دينها الحنيف؟!
إن واجب الأمة أن تأخذ بزمام المبادرة، ولا تترك دينها لمتلاعب أياً كانت رايته، ولا لعابث أياً كان شعاره، وأن لا تنخدع بالشعارات أياً كان مصدرها.
وأخيراً: فإنه يتعين على العلماء الربانيين، والمفكرين النابهين، أن يحطموا تلك الأوثان الفكرية التي أفسدت على الناس دينها ودنياها، وأن ينزعوا عنها تلك الشرعية الزائفة، وأن يقوموا كذلك بحماية الأمة من الالتفاف حول أوثان جديدة، لتنطلق بفطرتها النقية وسواعدها الفتية نحو نصر الله المتيقن، وراية الحق الموعودة بالرفعة والتمكين.
أضف تعليقك