بقلم: وائل قنديل
كان محمد البرادعي على رأس حزب اسمه "الدستور". هذا الاسم الذي طرحته عليه في ليلة التأسيس، بعد نقاشٍ مع أحد أساتذة التاريخ، فهلل: "أعلن الاسم فورًا"، الأمر الذي أثار موجةً من الانتقادات، والاتهامات بالانفراد بقرار التسمية فيما بعد.
كان الاسم مناسبًا للغاية لمشروع البرادعي، كونه صاحب شعار"الدستور أولًا وقبل كل شيء"، بعد ثورة يناير 2011. كما أن كثيرين كانوا يتوسّمون فيه أن يكون سعد زغلول الجديد الذي يجمع الأمة حول دستور للحياة والتحرر الوطني. ومن هنا، كان حماسه الشديد للاسم، مفضلًا إياه على أسماء أخرى تدور حول معنى الثورة والتحرير.
مصر الآن منشغلة بموضوع الدستور، إذ يمضي عبد الفتاح السيسي في طريقه إلى إعادة هندسته بما يضمن له البقاء في السلطة، حتى باب القبر، وهي العملية التي بدأت بعبارته الشهيرة "الدستور كتب بحسن نية".
من حيث المبدأ، لا يعترف كاتب هذه السطور بنظام السيسي، حكمًا شرعيًا، أو مشروعًا سياسيًا، غير أن كثيرين يعترفون، ومن هؤلاء محمد البرادعي، رجل الدستور. ومن هنا تبدو الدهشة من صمته على ما يدور علانية وجهرًا من تحرّشٍ بالدستور الذي وضع في ظل النظام الذي كان البرادعي فيه نائبًا لقطعة الديكور الرئاسية، رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور، الذي وضعه السيسي رئيسًا مؤقتًا.
كان من المفترض أن يكون الدكتور البرادعي، رجل القانون والسياسة والدستور، الأكثر انشغالًا وقلقًا وغضبًا من هذا التعدّي على الدستور، غير أنه مشغولٌ بالتغريد عن تطوير التعليم وتنقية المناهج، واللقطات الطريفة.
كانت هناك نكتةٌ قديمةٌ عن جحا العصر الحديث، تقول إن رجلًا اختار صحراء شاسعة، ليس فيها بشر ولا شجر ولا نهر ولا بحر، وقرّر أن يبني عليها جسرًا علويًا يربط بين الرمل والرمل، الأمر الذي أثار دهشة الناس، لكن المفاجأة الأكبر، والمفارقة الساخرة في النكتة، أنهم وجدوا جحا ذات صباح، أعلى الجسر، ممسكًا بصنارةٍ ووعاءٍ من الخوص، فسأله أحدهم ماذا تفعل هنا، فرد: أمارس هوايتي في صيد السمك.
لا أدري ما الذي يجذب الدكتور البرادعي لاصطياد التغريدات عن كل شيء، إلا موضوع العبث بالدستور، ساحته الأثيرة وملعبه النموذجي؟!
بعيدًا عن البرادعي والدستور، تبدو مصر غارقةً حتى أذنيها في محيطٍ من المشاهد الفاقعة في سخريتها، من الكلام عن الرئيس الشافط للدهون، إلى الحديث عن الحياة المرفهة في السجون، التي يقول من يديرها إنها تطعم نزلاءها البط والنعام، وتعطيهم راتبًا شهريًا يفوق رواتب الأطباء وأساتذة الجامعات، على الرغم من أن هناك من النبلاء في الزنازين من يحلم بلوحٍ من الكرتون ينام عليه، في برد الشتاء وقيظ الصيف، كما جرى مع الوزير السابق محمد علي بشر، الذي صادروا قطعةً من الورق المقوى اكتشفوا أنه يتخذها فراشًا في زنزانته، ومنهم، مثل الزميل الصحافي هشام جعفر الذي يطالب بإدخال سريرٍ على نفقته الخاصة، أو يحلم بعلبة دواء، ناهيك عن القصص المتواترة عن السطو على ما يودعه ذوو السجناء من أموالٍ وأطعمةٍ وأغطية في أمانات السجون.
تتسع رقعة السخرية أكثر، حين يصدر حكم، فجأًة، ببراءة جميع المتهمين في قضية منظمات المجتمع المدني (الأبيض)، وهي براءة مستحقة بالطبع، نهنئ أصحابها عليها، بعد ساعاتٍ من عودة السيسي من أوروبا التي خضّها خضًا عنيفًا، وفي اللحظة ذاتها تقتل قواته الأمنية ثمانية مواطنين، في عملية تصفيةٍ جسديةٍ متكرّرة، فلا تسمع صوتًا لهذا المجتمع المدني جدًا ضد هذه الوحشية في القتل، ويتوقف الكلام عن التوحش القضائي الذي ينكل بأطفالٍ معتقلين، كما في حالة الطفل عبد الله أبو مدين، ويمتهن حرية سيداتٍ، بعضهن من الناشطات في المجتمع المدني أيضًا، ولكنه مجتمع مدني (الملونين) ومن ثم مسموح بالبطش به وحرمانه من كل الحقوق.
السؤال هنا: هل صار القضاء الذي كان مسيسًا، وبعيدًا كل البعد عن النزاهة والعدالة، فجأة، عنوانًا للحقيقة وللعدالة؟.
أتمنى ألا تحمل الأيام المقبلة العودة السريعة إلى وضعية الانتقائية في طلب العدل والإنصاف، على طريقة أنا ومن بعدي الطوفان، وهي اللعبة التي يلجأ إليها النظام الاستبدادي، كلما لاحت في الأفق علامات اصطفافٍ حقوقيٍّ وإنسانيٍّ عابر للأيديولوجيات والتحيزات الفئوية.
أضف تعليقك