• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: د. سيف الدين عبد الفتاح

تأتي الأخبار من هنا وهناك، وتُجمع كلها على أن هناك سُحب معركة كبرى تتجمّع في الأفق، ذلك أنه، ومنذ اندلعت الثورات العربية، لم يهدأ لهؤلاء المضادين للثورة إقليميا ودوليا بال في الوقوف ضد أي عملية تغيير في المنطقة، تقوم على قاعدة من الاستجابة لمتطلبات الشعوب بالحرية والاستقلال وبالخروج من حال التبعية والتجزئة، وبضرورة الشروع في تبني نموذج للتنمية، يقوم على قاعدتين من الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، بحسبان أن هذا نمط التغيير الذي تتوق إليه الشعوب، وتحاول أن تبلغ مشارفه وتستشرف بشائر أهدافه، إلا أن هؤلاء المضادين للثورة قد جمعوا قواهم، في إرادة منهم، لمحاصرة تلك

الثورات العربية في كل مكان، وتطويق غاياتها وآمالها. هؤلاء الذين يحكمون ويتحكمون في هذه الشعوب إنما يمثلون أعلى درجات الاستبداد في نظمهم، من أجل المحافظة على كراسي سلطانهم وطغيانهم، وهم في سبيل ذلك يفعلون أي شيء، يفرّطون في الأوطان، وينتهكون الأبدان، ويقتلون الإنسان، يفعلون ذلك من غير روية أو رحمة، ضمن منطق السادة والعبيد في استبدادهم العتيد.

ومن ثم نرى هؤلاء في تجمعهم داخليا وإقليميا ودوليا يحشدون كل الطاقات، لتبديد أي بصيص يتعلق بتلك الثورات، ويقدمون كل التنازلات لبلادٍ غربية تنهب ثرواتهم من غير قيد أو شرط، وهم يجعلون ذلك من مسالك تقديمهم فروض طاعة وولاء، لهؤلاء الذين يعيرونهم صباح مساء بأنهم من يحمون عروشهم، وأنهم لولا حمايتهم لهوت أنظمتهم في ساعات أو أيام، فيقدمون مزيدا من ثرواتهم لهم، ابتزازا وبلا حساب، وهم كذلك حماية لعروشهم وتمرير سياساتهم الاستبدادية يهرولون نحو الكيان الصهيوني مطبّعين، ملتمسين رضاه ودعمه، يوسّطونه لدى بلاد الغرب إن وقعوا في أزمة تتعلق بعروشهم وسلطانهم. ها هو نتنياهو يخوض حملة علاقات عامة متدخلا لحماية محمد بن سلمان وكذلك عبد الفتاح السيسي، في محاولة لتبييض وجهه، بعد ارتكاب جريمته الشنعاء بقتل جمال خاشقجي، أحد مواطني السعودية في قنصليتها في إسطنبول. هكذا تتجمع تلك المصالح ضمن حفاظ هذه النظم على سياساتها في ممارسة طغيانها مدعومة من دول غربية بدعوى حماية مصالحها، ومبرّرة دعمها هؤلاء المستبدين في مقايضة خسيسة ودنيئة على حقوق الإنسان والمواطن في تلك النظم. هكذا أعلنت مصادر رسمية في بعض هذه الدول الغربية، وعبرت عن تلك الازدواجية المقيتة في تعاملها مع تلك الأنظمة المستبدة الغاشمة.

ماذا استجد إذاً، وقد صارت المعارك على أرض دول الثورات في مصر وفي سورية وفي اليمن وفي ليبيا، وما زالت المكائد تدار بالنسبة لتونس في إطار معارك قادمة. من المؤسف حقا أن تتحول هذه الدول التي كانت ميادينها مسرحا لاحتجاجات وثورات إلى أن تكون مسرحا لانقلابات عسكرية، أو حروب أهلية، أو تهجيرات قسرية، أو عمليات قتل تتخذ شكل إبادات جماعية، فقتلت العباد وخربت البلاد، وظل الطغاة في بلادهم آمنين طالما ضمنوا أمن إسرائيل، فأحدهم يعتبر أمن إسرائيل من صميم أمن بلاده القومي، وآخر الذي هجّر ما يقارب نصف شعبه، وأباد ما أباد من أهله آمنا على كرسيه فقط، لأن الكيان الصهيوني قد أقرّ بوجوده، لأن استمراره هو ما يضمن أمنه ويحفظ كيانه ومصلحته، حتى ولو ادعى كذبا وزيفا أنه من جناح المقاومة أو المواجهة للكيان الصهيوني. نحن أمام ما يمكن تسميتها صفقة القرن، ومعارك تتجمع حولها بشكل أو بآخر، أطراف تقود عمليات تطبيع خانعة، تقدم كل فروض الطاعة والولاء للكيان الصهيوني، ومن يدعمه من دول الغرب، ها هم ترامب وبن سلمان ومحمد بن زايد والسيسي يجتمعون جميعا في ساحةٍ واحدةٍ، يتكاتفون لتمرير صفقة القرن لمصلحة الكيان الصهيوني.

ونظم أخرى أفرزت أجنحة ممانعة في المنطقة، ومدافعة تقوم على قدر طاقتها وبإمكاناتها المتاحة مستثمرة كل الفرص، فاستطاعت المقاومة الفلسطينية، ممثلةً في مسيرات العودة، وفي المقاومة في غزة العزة، أن تقدم دروسا في مواجهة الكيان الصهيوني، وهو ما أعاق تلك السرعة الكبيرة التي أراد بها هؤلاء من حلف الاستبداد والمصالح الدنيئة أن ينجزوا صفقة القرن بكل قوة، ومحاولة تمرير كل التصورات والسياسات التي تتعلق بالوطن البديل، وإعادة فك وتركيب المنطقة وتركيبها، لتأمين الكيان الصهيوني ومصالحه في البقاء والاستمرار والهيمنة على المنطقة عسكريا واقتصاديا وتقنيا. هكذا أراد هذا الحلف أن يمكّن لبيئة مواتية لصفقة قرن، بينما واجهت المقاومة بـ"ملحمة القرن" ممثلة في مسيرات العودة، فأعاقت من مسيرة الصفقة وسرعتها، وكان ما كان من مقتل خاشقجي الذي مثل حالة كاشفة لحقوق الإنسان، فاضحة مواقف دول غربية داعمة للنظم المستبدة، وضعت تلك الفاجعة الغرب كله في مأزق، بفضل السياسة التركية في التعامل مع هذه القضية، وبفضل تغطية إعلامية من فضائيةٍ فضحت كل هذا وكشفت المستور. هذا وذاك جعل من هذه القضية قضية عالمية، لا يملك أحد إلا أن يتعاطف مع المقتول كحالة إنسانية وحاصرت القضية – الفضيحة الجميع، واتخذت مؤسسات صحافية وإعلامية غربية، وكذلك مؤسسات تشريعية أميركية وبعض المتنفذين في جهاز المخابرات، مواقف تفضح بن سلمان، وتدين جريمته الشنعاء وممارساته الخرقاء.

مثلت هذه الأمور بيئةً مواتيةً لمعركة المدافعة والممانعة في زلزلة هذا التحالف الدنيء الذي أراد أن يمرّر "صفقة القرن"، ويمرّر نظم الاستبداد دفعة واحدة، في نفاق رخيص على حياة الإنسان العربي الذي يقتل على أرض الثورات العربية، وكأنه يعاقب على تبنيه تلك الثورات وأشواق التغيير التي تستجيب لمطالب الشعوب، ممارسات لا يزال يقودها ترامب، لمصلحة الكيان الصهيوني، والذي لم يوارب في بيان أصدره بمناسبة موقف البيت الأبيض من ذلك الجرم الذي ارتكبه بن سلمان، فبرر ذلك بأنه لا يمكنه أن يفرّط في مصالحه مع النظام السعودي، ممثلا في ولي العهد.

ظل ترامب يدافع عن محمد بن سلمان مستميتا مبرّرا موقفه بـ "أن السعودية ساعدت إسرائيل، أتريدون أن تغادر إسرائيل". هكذا وبكل وضوح، وبلا مواربة، قالها ترامب الذي لا يتورع في التأكيد على براءة بن سلمان، وقد دانته كل الأجهزة والمؤسسات الأميركية، وكشفت سر فضيحته التي ارتكبها في قتل إنسان وتقطيعه، بتنفيذ منظومته وبتواطؤ منه. هكذا سنرى كل تلك المفارقات ضمن معركةٍ كبرى تلوح في الأفق على "صفقة القرن" ما بين حلف المستبدين وترامب من جهة وهؤلاء المدافعين عن حقوق الفلسطينيين وحق الإنسان في الحرية والتغيير من جهةٍ أخرى. إنها حقا سحب معركة تتجمع يقوم فيها حلف المستبدين الذي يحاول أن يحفظ للكيان الصهيوني أمنه وتأمينه ومصالحه، بتصفية حسابات مع تركيا ومع قطر ومع المقاومة الفلسطينية، معركة حقيقية لها ميادين متنوعة، ضمن معركة التغيير الكبرى بين شعوبٍ تريد الحرية والكرامة ومستبدين عتاة، غزاة وطغاة.

أضف تعليقك