بقلم سليم عزوز
آن للمفكر الأمريكي «صامويل هنتنغتون» أن يرتاح في قبره، فقد تحقق ما تنبأ به في كتابه «صدام الحضارات ونهاية التاريخ»، والذي بنى رؤيته، على أن المحرك الأساسي للنزاع بين البشر، لن يكون للاختلافات السياسية أو الفكرية، ولكن للاختلافات الثقافية!
هناك من اندفعوا للتأكيد على أن التنوع الثقافي سيكون سبباً في تزاوج الحضارات تكاملها لا صدامها، لكن تبين بالدليل أن ما انتهوا إليه وأقلق «صامويل هنتنغتون» في «تربته» ليس أكثر من وهم كان المحرض عليه هو «العاطفة الجياشة»، فالأصدق هو «صدام الحضارات» لا تزاوجها، وقد كان الدليل حاضراً على قناة «فرانس 24»، بين ثقافة العسكر، ومثلتها النائبة في برلمان السيسي «غادة عجمي» بكل هيلمانها الجسدي، وثقافة «بلد الجن والملائكة»، حسب طه حسين في رائعته «الأيام» الباحثة في مبادرة الإصلاح العربي «كلير تالون»، بكل ما فيها من رقة وانضباط! من حسن الحظ، أن المحيطات والأنهار، والجبال والوديان كانت تفصل بين الحضارتين، فلم يكونا في صعيد واحد، وإلا كانت حضارة «الفك المفترس»، التهمت «نعامة باريس»، لكن الله سلم، فقد كانت «غادة»، (انظر لرشاقة الاسم وجاذبيته) في القاهرة، ومشاركتها عبر الأقمار الصناعية، بينما «كلير» كانت عبر الأقمار الصناعية أيضاً، ولكن لم نتبين أين كانت على وجه التحديد، فهل كانت في القاهرة أيضاً، بعد علمنا أنها زوجة لحقوقي مصري، فقد شاهدت الفقرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولا أعرف من صاحب السبق في عرضها، فمن هذا الذي يشاهد قناة، تأخذك إلى السرير، لتنام نوماً هادئاً وتحلم أحلاماً سعيدة!
كتبت هنا من قبل، أن «فرانس 24»، فيها ميزة واحدة مرتبطة بالشكل، وهي هذا الصوت الجميل للمذيعات والمذيعين الذين يعملون بها، إنها «أصوات عفية»، تُذكر بالزمن الجميل، عندما كانت الدنيا بخير، وكثير من المذيعات الآن، يمكن أن تسبب أصواتهن اضطرابات في قولون المشاهد، لحجم الضوضاء التي تنتجها عبر الأثير.
وبعيداً عن بهاء الصورة، وبساطة الأستوديو، وعافية الصوت، ربما لا توجد ميزة أخرى في «فرانس 24»، التي يفتقد العاملون فيها للحماس اللازم، وكأنها محطة تلفزيونية زهد فيها أصحابها، فكانوا كمن أنجب طفلاً ونسى أنه أنجبه فلم يتعهده بالرعاية والاهتمام، وتبدو سياستها تقوم على عدم تذكير الملاك بها، فلهذا يأتي هذا الأداء، الذي يميل للاسترخاء، حد التجاهل التام لمظاهرات «أصحاب السترات الصفراء»، بدلاً من أن تكون هي المصدر الذي تنقل عنه الفضائيات الأخرى، هذه الأحداث، وتكون قبلة المشاهد ليعرف أبعاد هذه المظاهرات وحدودها!
يقولون إن «فرنس 24» هي قناة حكومية بالمفهوم العربي، ولهذا لم تقم بتغطية هذه المظاهرات، وهو عذر أقبح من ذنب، فليس هناك مبرر لتجاهل حدث مهم كهذا، ولو بعرض ما يجري والانتصار لرؤية الحكومة، لأن العالم فيه قنوات أخرى ستنقل، وليس من الحكمة دفن الرؤوس في الرمال، لكن ربما أن القائمين عليها وهم عرب، قد بالغوا في الامتثال للقيم الفرنسية التي لا تتجاوز الشكل الذي جاء في «الأيام» لطه حسين؛ فرأوا أن المظاهرات تمثل صخباً يخرج عند تغطيته القناة عن رسالتها، في نشر ثقافة الاسترخاء، فالفرانكفونيون العرب أكثر مبالغة في الالتزام بالقيم الفرنسية من الفرنسيين أنفسهم، وهي مشكلة المقلد، فلم تعد الفرنسيات الآن ينشغلن بالرشاقة بعد طغيان الثقافة الأمريكية في الطعام، في الشكل الذي شاهدناه في مظاهرات «السترات الصفراء»، ولم تعد فرنسا تعبيراً عن الثقافة الرفيعة، كما في «الأيام»!
النائم في «فرانس 24»
ولهذا يبدو أنه تم النظر إلى حلقة المواجهة بين «غادة عجمي» و»كلير تالون»، على أنها خروج على مقتضى الواجب الوظيفي، فلم يتم الاكتراث بما أنتجته من تفاعل عرف الناس من خلاله بوجود قناة اسمها «فرانس 24»، كان عليها أن تتعامل معه على أنها خطوة للانطلاق إلى رحاب أفضل، لكن بدا القوم وكأنهم يعيشون في كوكب آخر، فقبل كتابة هذه السطور، وفي صباح أمس الجمعة، دخلت على موقع القناة الالكتروني، وعلى صفحتها على «فيسبوك»، فلم أعثر على وجود لهذه التفاعلات لهذه الحلقة، التي كان المكتوب عنها قد حقق الأعلى قراءة على مواقع أخرى، وكان حجم رد الفعل عليها غير مسبوق!
لا بأس، فكل ما جرى لم يوقظ النائم، ولم يشغل الغافل، فيبدو أن شبكة الانترنت تم قطعها عن «فرانس 24»، نظراً لعدم دفعهم الاشتراك، فلم تصلهم أصداء حلقة «صدام الحضارات»، عندما قامت «نائبة عتويلة» في برلمان السيسي، بدور الفنانة «عبلة كامل» في الفيلم الشهير «خالتي فرنسا» لـ «بلال فضل»، وصاحت في البرية: «أين أنتم؟»، وقامت بتلحينها بأكثر من مقام في السلم الموسيقي، وكانت تضع «النضارة» على أرنبة أنفها، وهو أمر يفعل للحظات بدوافع القراءة، لكن النائبة لم تكن تقرأ، لكنها فعلت هكذا لدواعي الجدية والصرامة، وفتحت فمها، وأنفها، وهي تعلن أن السيسي أنقذ مصر، وأنقذ العالم العربي، وأنقذ العالم كله من الإرهاب!
لقد تأكدنا بالهتاف: «أين أنتم؟»، أن الأخ العقيد معمر القذافي قائد الثورة الليبية فكرة، والفكرة لا تموت، فقد قال من قبل: «من أنتم؟». وانتقلت إلى السيسي لتصبح: «إنتو مين؟». واستدعتها النائبة في برلمان السيسي وهي تصرخ «أين أنتم؟». وقد كان بسؤالها هذا تخاطب «كلير» بوصفها ممثلة الحكومة الفرنسية، كما تمثل هي «فخامة الرئيس السيسي»، وهو الوصف الذي أطلقه عليه «محمود عطية» على قناة الجزيرة، فصار «محمود» معروفاً به: «فخامة الرئيس السيسي»!
وكانت نائبة السيسي، تمثل ثلاث طبقات، جعلت الأمر يبدو مخيفاً، وربما لهذا كانت «اليمامة الفرنسية» لا تنظر إليها. فتتميز المذكورة ببساطة في الجسم، ثم أنها كانت ترتدي «بالطو من جلد النمر وريش النعام»، ولم يكن يكفيها هذا، فقد كانت تضغط على نفسها لتنتفخ لا سيما وهي تقول: «أين أنتم؟»!
والدليل على أنها عاملت «كلير» على أنها ممثلة الحكومة الفرنسية في البرنامج أنها قالت لها «روحوا اتشطروا ياختي على بتوع السترات الصفراء اللي بهدلوكم»، وفي مقام آخر قالت إن فرنسا قامت بزرع ألغام في منطقة العالمين في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم انتفخت حتى تجاوزت حدود الكاميرا والشاشة وهي تقول إن مصر فقدت 40 ألفا من أفراد الجيش والشرطة. لتصرخ بموجب هذا مرة أخرى وهي تقول: «أين أنتم؟». ومن هنا يمكنك التعرف على سمات الكائن السيساوي بسهولة، دعك من فكرة أنها نظرت للباحثة الفرنسية المهتمة بحقوق الإنسان على أنها ممثلة لـ «ماكرون»، فقد كنا أمام حالة من الجهل النشط، الذي يخل بشروط عضوية البرلمان، ففرنسا لا علاقة لها بعملية زرع الألغام في حرب كانت بزعامة انكلترا في جانب، وألمانيا في جانب آخر، ورغم مأساة زرع الألغام فإن السيسي احتفل بانتصار مصر في الحرب العالمية الثانية، في حين أن مصر كانت خاضعة للاحتلال، وكون من يحتلها هو من انتصر فإن احتفالها بالانتصار، إنما يؤكد على التماهي مع الاستعمار، وهو أمر برمته يؤكد غياب البوصلة الوطنية!
ثم هل فقدت مصر حقاً أربعين ألفا من أفراد الشرطة والقوات المسلحة في الحرب على الإرهاب .. يا لها من كارثة!
ديناصورة
كان موضوع الحلقة، وضع حقوق الإنسان في مصر، وتحدثت «كلير تالون» عن الوضع المزري لحقوق الإنسان في المحروسة، فإذا بها تفاجأ بنفسها في مواجهة ديناصورة توشك أن تسحبها من الشاشة إلى فمها!
ولأن المرء على دين خليله، فلم يكن غريباً أن تتقمص «غادة عجمي» شخصية السيسي ودفاعه، فعندما يتم مواجهته باستبداده وانتهاكه لأبسط حقوق الإنسان فإنه يهرب إلى خندق مواجهة الإرهاب، فهو في معركة مع الإرهاب، وهو دفاعه نفسه مؤخراً في برنامج (60 دقيقة) ودفاعه في المؤتمر الصحافي الذي جمع بينه وبين الرئيس الفرنسي، وفي الليلة التالية كانت قوات الأمن تقتحم منزل الناشط السياسي «يحيى حسين عبد الهادي» وتلقي القبض عليه، بتهمة إهانة السيسي، ولم يفعل الرجل سوى أنه دافع عن الدستور، الذي أقسم السيسي نفسه على احترامه!
وبعيداً عن المعتقلين من التيار الإسلامي، فقد اعتقل مئات من النشطاء الأخرين، ومن المنتمين للقوى السياسية المدنية، والقائمة طويلة، وتبدأ بعلاء عبد الفتاح، ويحيى القزاز، والسفير معصوم مرزوق، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور جمال عبد الفتاح، فهل هؤلاء إرهابيون؟ وهل الفريق سامي عنان، قائد أركان الجيش المصري سابقاً مارس الإرهاب، والذي تم سجنه عشر سنوات مؤخراً، لأنه قرر خوض الانتخابات الرئاسية، كما سجن العقيد قنصوة للسبب ذاته!
ومع هذا فإن رده على اتهامه بانتهاك حقوق الإنسان، هو رفع راية مواجهة الإرهاب، وهو الدفع المعتمد رسميا، فرددته «غادة عجمي» في «وصلة ردح»، وهي تقول لها «عند أمك»، و«ياختي»، وهي مفردات لا تُستخدم إلا عند «فرش الملاية»، وهو تطور مهم حدث في عهد السيسي، ففي السابق كانت النسوة اللاتي يجدن «الردح» يستخدمن في تزوير الانتخابات والاعتداء على الصحافيين والناخبين، أو في تفريق المظاهرات، على قاعدة إذا أردت أن تهزم رجلا حرض عليه امرأة، لكن في عهد السيسي كان التوظيف في عضوية البرلمان، ليمثلن بهذا الأداء، إدانة لمرحلة بكاملها، لأنهن التعبير الحقيقي عن هذه المرحلة بل وعنوانها الكبير!
بدت «كلير تالون»، كما لو كانت لإقامتها في مصر، قد تدربت على مواجهة هذا الأداء، فكانت ابتسامتها تجعل من كل ما قيل كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ثم أنها صفقت لها عقب أحد «الكوبليهات»، وردت على «خالتي فرنسا» وهي تقول نحن من نعبر عن الشعب المصري.. نحن أعضاء البرلمان، بما هو معلوم من البرلمان الحالي بالضرورة وهو أنه اختيار المخابرات!
مدمرة هذه «اليمامة الباريسية»، فقد انتصرت في صراع الحضارات، عندما التقى الجمعان، عذب فرات وهذا ملح أجاج بينهما برزخ وحجر محجور.
لقد تحول الأداء لفضيحة يتغنى بها الركبان.. أهذه نائبة تمثل الشعب المصري.. أهذه اختيار سلطة تملك الحد الأدنى من احترام الذات!
هذا صدام الحضارات.. ونحن الآن في نهاية التاريخ!
أضف تعليقك