بقلم.. قطب العربي
لن تمحى من الذاكرة المصرية والعربية صور السيدات والرجال الذين انهمكوا في وصلات رقص هستيري أمام لجان الاقتراع على الدستور المصري في كانون الثاني/ يناير 2014.. كان منظرا لافتا، وجديدا على الحياة السياسية ليس في مصر فقط، بل ربما في العالم كله. كان الرقص تعبيرا عن حالة انتصار وهمي بإنجاز التعديلات الدستورية التي لم يكن في مصر من يعارضها في ذلك الوقت، فكل الرافضين إما في السجون أو المنافي، او ملاحقون أمنيا. وقد حرصت وسائل الإعلام المصرية على نقل وصلات الرقص باعتبارها الحدث الأهم في تلك الأيام، كما وجد ذلك الرقص تبريرات كثيرة من المتحدثين عبر وسائل الإعلام باعتباره تعبير عن فرحة عامة بالدستور الذي سيحقق الاستقرار للبلاد (بزعمهم)، والذي وصفوه بأنه أعظم دستور في الكون.
الغريب أن الذين رقصوا للدستور في كانون الثاني/ يناير 2014 هم أنفسهم الذين يتراقصون الآن طلبا لتعديل الدستور، وهم الذين سيرقصون غدا على أشلاء هذا الدستور بعد تغيير الكثير من مواده، وهؤلاء لا يمكن التعويل عليهم في أي معارك سياسية، فهم مجرد مأجورين في معظمهم، أو جهلاء أو حمقى لا يفهمون مصلحة الوطن، بل لا يفهمون حتى مصلحتهم الشخصية.
المشكلة هي في أولئك الذين ساندوا الانقلاب على دستور 2012، وساندوا بقوة دستور 2014، والذين كانوا أعضاء بالجمعية التي صاغته، والذين شكلوا لاحقا جمعية للدفاع عنه (اختفت الآن في ظروف غامضة) والذين ملأوا الدنيا ضجيجا دفاعا عما وصفوه بأعظم دستور في الكون، ثم هم الآن يبتلعون ألسنتهم، ويصمتون صمت القبور في مواجهة عبث واضح بالدستور لتأبيد المشير عبد الفتاح السيسي في سدة الحكم حتى وفاته.
سيقول البعض إن عصا النظام غليظة، وإن أجساد أولئك السياسيين والمثقفين الصامتين لا تحتمل تلك العصا، خاصة أنهم شاهدوا رؤوسا أكبر منهم تم قطفها، وتم حبسها والتخلص منها، وهذا صحيح، لكن هذه العصا الغليظة لم تأت بالنتيجة ذاتها مع غيرهم ممن نذروا أنفسهم للدفاع عن مبادئهم وعن وطنهم وشعبهم، ودفعوا ثمنا غاليا من أرواحهم وأموالهم وحرياتهم فداء لما يؤمنون به، ولم يلينوا أو ينكسروا، بل ظلوا صامدين، سواء داخل السجون أو خارجها حتى الآن.
تصاعد القمع الأمني لم يمنع بعض الأحزاب والكيانات والشخصيات من إعلان موقفها الرافض للتعديلات الدستورية، مثل الحركة المدنية المصرية، وأحزاب الدستور والمصري الديمقراطي الاجتماعي، ونفر من حزب الوفد، وبعض الشخصيات العامة الليبرالية واليسارية من داخل مصر أو خارجها، مثل الدكتور محمد البرادعي وحمدين صباحي، وحسن نافعة، ونور فرحات، وأنور الهواري.. وهذا الموقف لهذه الشخصيات قد يكلفها ثمنا عليها أن تكون جاهزة لدفعه. وقد بدأت ماكينة الفرم بالمخرج خالد يوسف والنائب هيثم الحريري الذين سربت أجهزة الأمن لهما مجموعة من المقاطع المصورة المشينة، وحركت من ثم البلاغات بحقهما أمام النيابة ليكونا عبرة لغيرهما من المعارضين.
أحدث المنضمين لقافلة الاعتراض على التعديلات الدستورية، وإن بلغة دبلوماسية مرتجفة، هو عمرو موسى الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية ورئيس لجنة الخمسين لصياغة الدستور الحالي المراد تغييره، ورئيس جمعية حماية الدستور التي أسسها مع بعض الأعضاء الآخرين في آذار/ مارس 2016، إذ دعا على حسابه في تويتر إلى حوار وطني "فسيح" بشأن التعديلات، تتاح له مختلف المنابر وعلى رأسها منبر البرلمان، وأن يتاح للرأي والرأي المعارض المجال لتفعيل هذا الحوار.. كلمات عمرو موسى هي نوع من إبراء الذمة الذي لا يرقى إلى المستوى المطلوب من رئيس اللجنة التي صاغت الدستور ورئيس جمعية الدفاع عنه.
وإذا كانت معارضة الداخل تحاول رغم القمع أن ترفع صوتها، فإن المعارضة الليبرالية في الخارج والتي تتمتع بحرية واسعة للحركة لم تفعل أكثر مما يفعله معارضو الداخل، رغم وجود مساحات كبيرة للحركة أمامها، فهي تستطيع تنظيم حملات سياسية وإعلامية عالمية، وتستطيع عقد لقاءات ومؤتمرات سياسية أو صحفية، والتواصل مع مؤسسات المجتمع المدني المؤثرة دوليا، والضغط على الحكومات الراعية للسيسي لوقف دعمها له، وهو ما لم يحدث، مكتفية ببعض التغريدات على صفحات التواصل الاجتماعي.
الأمر الغريب هو محاولة البعض فرض وجهة نظر أحادية في التعامل مع أزمة التعديلات الدستورية، حيث يقتنع البعض بضرورة المشاركة في التصويت بـ"لا"، ويريد أن يفرض هذه القناعة على غيره، ومن لا يستجب له يتم وضعه في مربع الخيانة للثورة والديمقراطية، بينما يرى قسم كبير من المصريين المناهضين للانقلاب أن دورهم ليس المشاركة في زفة التعديلات الدستورية قبولا أو رفضا، فهم يرفضون الانقلاب وكل ما أنتجه، ومن ذلك هذا الدستور الذي لم يخرج معبرا عن جموع المصريين، بل عن داعمي الانقلاب فقط، ومع ذلك فإن رافضي الانقلاب لا ينكرون على بقية القوى السياسية تحركاتها، كما أنهم يعبرون عن رفضهم للعبث الدستوري بطريقتهم الخاصة التي تصب في النهاية في المعركة الكبرى للخلاص من هذا الحكم العسكري. والطريف أن بعض الصامتين الذين يخشون على أنفسهم من الملاحقة يبررون جبنهم وصمتهم بادعاءات كاذبة عن تصدّر الإخوان لحملة رفض التعديلات!!!
معركة التعديلات الدستورية فرصة للقوى السياسية خصوصا في الداخل للملمة صفوفها، وتحسين صورتها، كما أنها فرصة للتقارب بين كل القوى السياسية الرافضة والمعارضة للحكم العسكري للعمل معا للخلاص من هذا النظام الذي لم يعد يفرق بين تلك القوى، فالكل في نظره يستحقون الموت أو السجن.
أضف تعليقك