بقلم: عامر شماخ
إذا يممت وجهك قِبَل المحيط أو الخليج، أو شمال بلاد الشام أو أقصى جنوب اليمن أو الصومال فسترى مخالب الفقر ناشبة فى ضلوع وطننا العربى المهيض، وستعاين رقعة مترامية الأطراف متباعدة الحدود يعلوها القهر والخضوع؛ إذ الأموات فيها أكثر من الأحياء، مع العلم أن هذا الوطن الكبير كان منذ فجر التاريخ منارة العلم، موطن الرسالات، مهد الحضارات..
لكن فى الزمن القريب نُكب هذا الوطن ببعض بنيه ممن حكموه؛ إذ أوردوه موارد الهلكة، وسلكوا به مسالك الضياع، واتبعوا سنن أعدائه شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، واليوم نحصد نتائج ما فعلوا من الهممِّ والغمِّ والكرب. اليوم لا تجد بين دول الوطن واحدة مستقرة، أو ناهضة، أو واعدة، بل كلها تبيت فى وهاد الفقر والعوز، وتصحو فى أجواء المذلة والخنوع.
يثور الآن أبناء هذا الوطن، أحفاد الصحابة الكرام، أنجال القواد العظام، على الظلم والفساد، وعلى أوضاع غيبت عقل الأمة وأذهبت رشدها. منذ ثمانى سنوات بدأت ثورتهم، ومن يومها وهم يواجهون وحش الفساد والاستبداد، وشيطان العمالة الرخيصة، مصرّين على استكمال ثورتهم حتى يفيق الوطن من فجيعته، وحتى ينهض من كبوته؛ إذ كلما أطفأ العملاء ثورة فى بلد، قامت أخرى فى بلد ثان، ولا أرى إلا أن هذه الثورات على تباعد أوطانها ستلتقى يومًا قريبًا للاحتفال بنجاحها جميعًا فى ميدان فسيح من ميادين الثورة؛ ذلك أن هناك إصرارًا على التحرر، والشعوب إذا أرادت ذلك فلن يوقفها بشرٌ، مهما كانت قوته..
لم يكن مستساغًا وقد انصرم نحو ربع القرن الحادى والعشرين، عاصرنا خلاله ثورة اتصالات تعادل حصاد الحضارات السابقة مجتمعة؛ أن يبقى هذا العالم ذو الجذور الضاربة فى عمق التاريخ على هذه الصورة من الديكتاتورية المقيتة، والغباء، وموالاة الأعداء فكان الطبيعى أن يفجر أبناؤه هذه الثورات منعًا لتمادى الحكام الذين صُنعوا على عين الغرب من فتح الباب لحقبة استخرابية جديدة الله أعلم بما سيتم خلالها؛ فربما كان (سايكس بيكو) أرحم بنا ممن سيجيئون غدًا من منفذى صفقة القرن وغيرها. والطبيعى كذلك أن تنتفض الأمة بعدما صارت سجونها أكثر من مصانعها، وقصور حكامها وأمرائها أكثر من مساجدها ومدارسها، وجيوشها -التى لا عمل لها سوى تصفية الشباب- دولاً داخل الدول، لها ثرواتها الخاصة وذممها المالية المستقلة.
إذًا هى فترة تحول؛ ليسترد الوطن العربى عافيته، ويفيق من سكرته، وينهض من كبوته التى أوقعه فيها حكامه المستبدون، تستيقظ الشعوب العربية الآن بعدما أفقرتها الأنظمة التابعة الذليلة، وهدها الاستبداد الغاشم، وأهلكها وباء الفساد لتستعيد أمجاد وطن استوعب التاريخ والجغرافيا والحضارة جميعًا، ولتفجر طاقات هذا الوطن الذى يتوسط العالم، ويحتكر خيراته، ويتمتع دون غيره بكل مقومات الريادة.
لن تصبر الشعوب العربية أكثر مما صبرت، ولن تدع الفرصة تفلت من بين يديها، وستطرق على الحديد وهو مشتعل؛ خصوصًا أن المرجل يغلى، والعالم يتغير، والقيادة تتحول، وهناك صعود وهبوط، وعلو وانحدار، وفى مقابل أمريكا ظهرت الصين فى الأفق، وفى مقابل أوربا هناك كوريا والهند وغيرهما، وأفريقيا لم تعد أفريقيا الغارقة فى الجهل والتخلف، إنها تحتضن الآن نمورًا اقتصادية وعلمية، والمتوقع أن يعيد الأفارقة أمجادهم وحضارتهم فى خلال عقود.. كل هذا يشعل فى شعوبنا الحماس والغيرة الحضارية، ويدفعهم دفعًا إلى نبذ الحكومات والأنظمة القائمة التى مكنت أعداءنا من حكم بلادنا، وحاربت الدين، وطاردت الفضيلة، وقدمت النفايات، وأخرت الكفايات، وأهدرت كرامة الإنسان العربى، وقد شغلته عن سوءاتها وخطاياها بالجرى وراء لقمة العيش، والدوران فى رحى البحث عن فرصة متواضعة للتعليم أو العلاج أو التوظف.
تلك المرحلة المفصلية المشبعة بالثورة، المليئة بالاحتقان والتوتر لن تبقى حاكمًا من هؤلاء الظلمة مستقرًا على كرسيه -هذا إذا بقى- بل ستعصف بكل المناوئين المخادعين، وستبدد ما كان مخططًا له منذ سنين ليصبُّ فى مصلحة الأعداء. سيعلو الحق لا ريب فى ذلك، وستسمع الدنيا لنا؛ إذ الحق أحق أن يُتبع، وما انتفش باطل وارتفع إلا زهق. ولله الحمد والمنة.
أضف تعليقك