بقلم: سيف الدين عبد الفتاح
باستعراض مشاهد التزوير التي حدثت في العملية الاستفتائية في مصر، تصل إلى نتيجة مهمة، أن التزوير ليس حالة تتعلق بالاستفتاءات أو الانتخابات أو تسويد البطاقات، وإنما هو في واقع الأمر حالة شاملة، نستطيع أن نستدل عليها بمواقف ومشاهد وسياسات، حتى أن هذا النظام الانقلابي اتخذ من التزوير إستراتيجية له، فإذا أردنا أن نتحدث، منذ البداية، عن حالة التزوير الذي صاحبت الانقلاب، واقترنت بتلك المنظومة الانقلابية، فإننا نستطيع القول، وبلا مواربة أو اعتساف، إن النظام الانقلابي احترف التزوير، وجعله طريقة له، وديدنا اتخذ فيه مسالك خطيرة وكثيرة، فكان أهم تزوير قام به أن أضفى على انقلابه مسوح الثورة، وقد استخدم غطاء شعبيا لتبرير ذلك وتمريره، فكان ذلك، في حد ذاته، عملية تزوير كبرى، أعقبتها عمليات أخرى من التزوير والتغرير، فكيف يسمى الانقلاب ثورة؟ وكيف قام هؤلاء بلا رحمة في إحداث انقسام مجتمعي واسع، أرادوا أن يُحدثوا به شقا في الجماعة الوطنية، وبين القوى السياسية وبعضها بعضا، فدقّ العسكر إسفين الفرقة والاستقطاب، ليواصل فعله الدنيء في صناعة الكراهية وتزوير حياة الناس.
لم يقف الأمر عند هذا التزوير التأسيسي، بل حاول دائما أن يسرق إرادة الشعب بأشكال مختلفة، فتحدث عن التفويض، وعن الإرهاب المحتمل؛ ليمارس عملية تزييف للواقع، مروجا بين الكافة أن البلاد والعباد كانوا مقبلين على حربٍ أهلية طاحنة، إلا أن ذلك كان يبطله ما أضمر من خلال أجهزته ضمن تصوراتهم، في خطاباتهم المعلنة والمسربة على حد سواء. كان تزوير إرادة الشعب سُلّما إلى تشويه هذا الشعب، وتصويره على نحو معين. نرى ذلك واضحا في خطاب العسكر المزوّر، يغطى بكلمات معسولة وزخرف القول، ليجتذب الجميع إلى أتون مصنع الكراهية الذي فتح أسواقا واسعة إعلاميا وسياسيا، فصار يستخدم خطابا يتسم بالخداع الاستراتيجي، ضمن استدراج مقيت، في ما يمكن تسميته خطاب "نور عنينا".. "وأن هذا كان ذلك إيذانا بتزوير الخطاب جملة وتفصيلا، هذا التزوير جاء في إصدار خطابٍ كغطاء وإصدار خطاب آخر في الخفاء، فقدّم صورة الشعب كما يراها في حقيقة مكنونه وإدراكه من كونه "شعب جعان ومتنيل.. نحن من نقوّمه ونقعّده حتى إذا قام أخذنا اللقطة، وفي النهاية نلبسه العمة". هذه كلمات وردت على ألسنة قادة العسكر في تسريباتهم وتصريحاتهم. ضمن هذه النظرة الدونية لهذا الشعب، ومحاولة التلاعب بإرادته، لم يكن ذلك إلا مقدمة تزويرٍ للخطاب حول الديمقراطية وحول حقوق الإنسان، وحول كل أمر يتعلق بالحياة المدنية، وكأن هذا الشعب ليس أهلا للديمقراطية، ووجب أن تفرض الوصاية عليه من العسكر، يحدد لهم ما شاء وأنّى شاء، تزوير متراكم لم يكن الهدف منه إلا التزوير الفاضح للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
ومن جوف هذا التزوير للخطاب، كانت لعبة تزوير المجتمع، وتزييف وشائجه وتشويه علاقاته ضمن خطة خداع استراتيجي أخرى، في محاولة عسكرة المدني، وفرض العسكرة على كامل المجتمع، بل وفرض هذه العسكرة على كل مؤسسات الدولة بشكل مباشر، بالتسرب إليها، والتمكّن من مفاصلها، أو باختطاف تلك المؤسسات قرارا وموقفا، تارة تحت تهديد السلاح، وتارة أخرى بذهب المعز. كانت عسكرة المجتمع تعني، ضمن ما تعني، فرض طرائق العسكر في الأمر والطاعة كما تعرف الحياة العسكرية، وحوّل باصطناع القانون وتزويره وتمريره مؤسسات عدة، واعتبرها بحكم القانون مؤسسات عسكرية، واتهم الناس جزافا، وألصق بهم جرائم أدت إلى محاكمتهم أمام القضاء العسكري، وهم يشكلون أفرادا في مجتمع مدني صرف. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسرب إلى هؤلاء الذين يديرون المؤسسات الجامعية والأكاديمية، ليخرج هؤلاء عن وقارهم، ويدخلون في مزادات الدعايات الاستفتائية والرشاوى الانتخابية. هل أتاك حديث رئيس جامعة القاهرة، حينما وقف بين الطلبة، وكأنه يدير مزادا يطلق فيه الوعود والهبات ودرجات الرأفة في مقابل عملية إغواء سياسي كبرى، بالذهاب إلى مقار الانتخابات. ولم يكن رئيس جامعة القاهرة إلا نموذجا من أذرع كثيرة في مؤسساتٍ كنا نظنها موقرة، فإذا بها كرامتها مهدرة.
وصارت عمليات التزوير للمجتمع وتزوير الناس استراتيجية كبرى بسياساتٍ ممنهجةٍ في الترويع والتجويع والتطبيع وصناعة حالة القطيع، واستدعاء واستنفار كل ما يتعلق بإثارة الغرائز من كراتين غذاء، أو من خروج الناس على أطوارهم، باحترام أنفسهم والعملية الديمقراطية لحالة رقص خليع وطبل وزمر مريع. حاول هؤلاء بذلك كله تزوير الحياة الشعبية، حتى يغطي على كل ما يمكن تسميتها أساليب الاحتجاج، ومحاولة المقاطعة والتصويت بـ"لا" وإدارة حملات ناجحة، مثل "اطمن أنت مش لوحدك" و"باطل"، معتقدا أنه، بتزييفه السلوك والقيم، يستطيع أن يصنع صورة مهدرة الكرامة تمارس المسخرة. وسبق ذلك كله ولحقته عمليات تزوير منظمة ومتراكمة من تزوير مفهوم الدستور وتزوير عمليات التعديل وتزوير كل شيء، فلم يعد الكلام يعني ما يعنيه. قام هؤلاء، كما أكدنا، بعملية تزوير كبرى للمجتمع والخطاب والقيم والمفاهيم وإرادة الشعوب وحريتها وخداع الناس خداعا استراتيجيا، وكأنهم في مواجهة الشعوب في حال حرب وسيطرة، والتي صنفوها أجيالا حتى يتم تزوير الخيارات والمواقف والانتخابات والاستفتاءات، وذلك كله يتوج بتزوير المؤسسات، واختطافها اختطافا قهريا وقسريا. ألم نقل إن التزوير صار حالة استراتيجية لمنظومة الانقلاب ونظامه.
التزوير، في امتداداته وتعدّد أشكاله، يشكل عائلة متكاملة، ومفهوما يرتبط بمناحٍ كثيرة، حتى يشكل حالة مجتمعية. ينظر القانون للتزوير أنه ظاهرة تهدف إلى تغيير للحقيقة، بقصد الاحتيال والغش، بإحدى الطرق المادية والمعنوية التي يحاسب عليها القانون، لأنها تُحدث ضررا بالمصلحة العامة، ضمن مسارات صناعة الوهم. التزوير ليس ورقة تُسود، ولا صوتا يُبدل، ولا رشاوى تُدفع. إنه، وفق هذا التصور، عملية كاملة، تحدث في جميع المراحل، أهونها فساد المال، وأخطرها فساد الذمم وتشويه الفطر. التزوير عملية كاملة.. لأن النظام الذي يسود البطاقة لا يقوم بذلك فحسب، بل هو يقوم بتسويد العقول وتبديل المشاعر وغسيل الأمخاخ.. التزوير في الانتخابات صناعةٌ متكاملة ممتدة ومتراكمة، تجعله ليس في حاجة إلى تسويد البطاقات، لأن الناس، حينئذ، من خلال التلاعب المشين والغرائز والتجويع، ستفعل مع تدشين عقلية الإذعان؛ بحيث تدفع عموم الناس إلى استدعاء أفعالٍ مواتيةٍ لمنظومة الفساد والاستبداد، وتعيش بيئة مزورة، فتسلك كل مسالك التزوير تمرّره وتبرّره.
ومن جملة ما أرادوا تزويره تزوير فعل الثورة ومعناها، تشويها وحصارا، ومحاولة سد كل منافذ الاحتجاج على استبدادهم وطغيانهم، متصورين أنهم، بأجهزة أمنهم واستخباراتهم، يستطيعون أن يزوّروا شعبا بأسره، مؤكدين أن الثورات كانت مسؤولةً عن خراب البلاد، مقصدها هدم الدولة. يخفون الأسباب الحقيقية التي تتعلق بتزوير أصل سيطرتهم على السلطة والسلطان كعصابة تستند إلى شبكات استبدادهم وفسادهم، اعتقادا منهم أن لديهم القدرة، بأذرع كثيرة، ومسوخ حقيرة، وجوقة نفاق كبيرة، يصنعون حالة الزيف والتزوير. .. الزيف لن يستمر، والتزوير لن يمر، والثورة في نفوس الناس تستعر، وقناعة تستقر. لا تأمنوا تزويركم، فالشعوب لا يمكن تزويرها، فإرادتها باقية وثوراتها آتية.
أضف تعليقك