بقلم : سَليم عزوز
تلبّسَت الناشط السياسي جورج إسحق، حالة سلطوية، فاستهجن المُعارضة من الخارج، يُوشك أن يُخاطب أفرادها، كما السادات: «أولادي المُغرّر بيهم»، فعندما تتبدّل المواقع تتقمّص المُعارضة الوظيفية، شخصية «الحاكم الضرورة»، في وضع أقرب إلى «ريّا وسكينة»، عندما تزوّجت إحداهما الشاويش «عبد العال»، فغنين: «نسبنا الحكومة .. وبقينا حبايب.. حبايب قرايب»، وباعتبار الشاويش المذكور هو الحكومة أو الرمز الأوحد لهذه الحكومة!.
فالسادات هو من شن على مُعارضة الخارج حملة شعواء، وقال إنهم يُهاجمون مصر في الخارج يا ولاد، وقد اختزل مصر في شخصه الكريم، فكان كل هجوم عليه هو، هجوماً عليها. وكانت هذه المُعارضة ممثلة في اليسار بكل تنويعاته، لكن حتى هذا اليسار عندما أنس من النظام وُداً في عهد مبارك، صار سلطوياً يستهجن المُعارضة في الخارج، ويرى أن مُعارضة السُلطة خارج حدود البلاد هي هجوم على شرف الوطن، فلم تكن هناك مُعارضة في الخارج في عهد مبارك، إلا بعض الأقلام القليلة.
وقد حكمت الحالة أداءهم عندما ظنوا أنهم شركاء في الانقلاب العسكري على السلطة المُنتخبة، وبدوا أنهم سيكونون هم السُلطة بقوة السلاح وبحماية الدبّابة، فكان التخوين والتسفيه لمن هم في الخارج، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، وينتهي المطاف بسجن كل من يرفع صوته من القوى المدنية، أو بدون أن يرفع صوته، فعبد الحليم قنديل، الذي ظن أنه من أهل الحُكم هو الآن في السجن، ولم يَشفع له أن أيّد السيسي ودافع عنه وبرّر سياساته في سيناء، لقد اعتبر أن تفاهماته مع الإسرائيليين إنجاز عظيم.
لقد انقلب السحر على الساحر، وإذ بيد السيسي تبطش بكل من يفتح فمه بكلمة فيها نقد له، فلم يعد تيّار رفض الانقلاب أعداءه، فكل من شارك في ثورة يناير هو بالنسبة له عدو، لأنه - في الحقيقة - هو ابن النظام الذي خرجت عليه ثورة يناير!.
ومع هذا، ظل البعض، وقد حُرموا الحق في التنفس، يتعالون على مُعارضة الخارج، مع أنهم يُدركون أنهم في مصر بحكم الأسير، فتكفي كلمة تخرُج من أحدهم عفوياً، فتهوي به في سجون السيسي ومُعتقلاته، والتي لم تعد تميّز بين المُرشد العام للإخوان المسلمين، والسفير معصوم مرزوق، أو بين محمد العمدة ويحيى القزاز، أو بين محمود الخضيري وهشام جنينة، أو كل هؤلاء وقد شاركوا في ثورة يناير، وبين الفريق سامي عنان، الذي عيّنه مبارك رئيساً للأركان كما عيّن السيسي مديراً للمُخابرات الحربية!.
بيد أن جورج إسحق ليس من هؤلاء، إنه ومِن مُوقعه عضواً مُعيّناً في المجلس القومي لحقوق الإنسان، ينظر لنفسه باعتباره سُلطة، وعليه، فقد ذهب يرمي مُعارضة الخارج بالخيانة الوطنية، ويقول إن من يُريد أن يُعارض فليأت للمُعارضة من الداخل .. إنه يتحدّث من مُنطلق أنه سُلطة حُكم «ناسبنا الحكومة. وبقينا حبايب.. حبايب قرايب»!.
هذا الرأي قاله المذكور «إسحق» رداً على مُبادرة أيمن نور، واختياره من ضمن المئة شخصية التي تواجه النظام الحاكم بعد مرحلة التعديلات الدستورية!.
وقد أخطأ أيمن نور، ولا شك، ليس بسعيه للفعل السياسي والاجتهاد في البحث عن سبل للمقاومة، ولكن لأنه رجل عناوين، يضع «المانشيت» ولا يهتم بالمتن، فاختار أناساً من الداخل، بما يُمثله هذا من مُخاطرة، ثم يَعرض أسماءهم في وسائل الإعلام قبل أن يحصل على موافقتهم، فيبدو الأمر كطلعة إعلامية، تنتهي في الإعلام، أو للدقة، زوبعة في فنجان، تتلاشى بمجرد إعلان أحدهم بأنه لا يوافق على اختياره.
وبدلاً من أن يُعلن «جورج إسحق» كغيره، أنه لم يُستشر ولا يُوافق، فقد تقدّم خطوة للأمام، فأكد أن رفضه هو أنه يرفُض المُعارضة من الخارج، ثم يتقدّم خطوة أخرى من موقعه السلطوي، ليقول من يريد أن يُعارض مصر فليأت إلى الداخل، وهو خطاب نظام كانت تطلقه أجهزة الحُكم للتأكيد على أنها أنظمة ديمقراطية، تسمح بممارسة المُعارضة من الداخل، فلماذا اللجوء للخارج؟!
بيد أن اللافت هنا، أن السيسي لم يُطلق هذه الدعوة، شأن الأنظمة السابقة، وكما كان يحدث في عهد السادات، أو كما حدث فعلياً في عهد مبارك، عندما كانت الدعوة للمُعارضة أن تعود فالأجواء ستكون مُختلفة في عهده؛ ذلك بأن السيسي يُدرك تماماً أن المُعارضة ليس مسموحاً بها، ولو من باب التمثيل و»الضحك على الذقون»، وقد استقبلت سجونه رموزاً للقوى المدنية، وقيادات في أحزاب قانونية، دون توجيه أي اتهام قانوني جاد، والذي ساقهم للسجن، ليس مُخالفة القانون بل إعماله، وتوجيه النقد ومُمارسة المُعارضة حق من الحقوق الدستورية!.
لكن «جورج إسحق»، انتقل من موقع السلطة إلى منبر المُعارضة في خفة يُحسَد عليها، فهو عندما يقوم بتخوين مُعارضة الخارج، فإن منطلقاته هي ذاتها مُنطلقات «ريا» و»سكينة»: «ناسبنا الحكومة .. وبقينا حبايب.. حبايب قرايب»، لكنه يعود فيتحدّث بلسان مُعارض، فيقول إن على من هم في الخارج أن يعودوا للوطن، ليدفعوا الثمن الذي ندفعه.. فما هو الثمن الذي دفعه ويدفعه، ليس الآن فقط ولكن في عهد مبارك أيضاً عندما كان من المؤسسين لحركة كفاية، وتولى موقع المُنسّق العام في مرحلة التأسيس، لأسباب غير مُرتبطة بكونه معارضاً جذرياً للنظام، فقد كان يُبرّد الساخن، ويُهدّئ الثائر، قبل أن تكتشف الحركة أنه صار بأدائه الباهت عبئاً عليها، فجرى تغييره.
لقد كان السبب في هذا الترقي الوظيفي داخل كفاية، لا يرجع لأن الرجل له مقام صدق في المعارضة، فقد جيء به من المجهول السياسيّ كعضو غير فاعل في حزب العمل، رُحب بانضمامه إليه بتعزيز من خانة الديانة في أوراقه الرسمية، وفي فترة كانت تعليمات البابا صريحة، بعدم الانضمام لحزب العمل، لتوجّهه الإسلامي، وهناك محاولات عدة بذلها الراحل عادل حسين لكسر هذا الحصار، ليس هنا مجال لذكرها. و»جورج إسحق» خارج هيمنة البابا شنودة باعتباره مسيحياً كاثوليكياً، وظني أنه لهذا وقع الاختيار عليه مُنسّقاً عاماً لحركة كفاية، مع أنه كان في مستوى المُعارضة الرسمية، وكأن «كفاية» حزب حصل على الترخيص القانوني من لجنة شؤون الأحزاب!.
لقد كان أول وآخر احتكاك لي به، في مُظاهرة نظّمت بعد التحرّش المُنحط من قبل شبّيحة وزير الداخلية لزميلتنا الراحلة نوال علي، أمام نقابة الصحفيين، في عهد مبارك، ولم أكن حاضراً الواقعة التي نُقلت على الهواء مُباشرة، لكنها أجّجت مشاعر الغضب داخلي، وأغضبت كثيرين قرّروا التظاهر، وكان مبارك قد تلقّى تعنيفاً من الرئيس الأمريكي، حذّره فيه من الاقتراب من المظاهرات، وبدت المُظاهرة التالية في حماية المُجتمع الدولي، وإذ تقرّر أن تكون في ميدان ضريح سعد زغلول، فكان الاتفاق الأمني - والحال كذلك - أن تكون صامتة وبالشموع فقط!.
عندما نادى منادٍ أن الوقفة انتهت، كان الأمن يُخرجنا من شوارع ضيّقة تحت إشرافه، وكان حرصه كله ينصب على التحكّم بالخروج، حتى لا يمتد التظاهر إلى خارج المنطقة المُحدّدة والمُحاصرة، كما حرص على عدم الخروج بالشموع إلى خارج الموقع، وكان يقف مع رجال الأمن «جورج إسحق» يُساعدهم في المُهمة الأمنية، وعندما صِرتُ والأمن وجهاً لوجه، رفضت طلبهم، وقلت بل سأخرج بالشمعة مُضاءة، وفي الزحام هتف الضابط لـ «الأستاذ جورج» للتدخل، في استدعاء لا تخطئ العين دلالته، والذي قال لي: لقد اتفقنا على الخروج بدون شمع، وسألته بصوت غاضب اتفقت مع من؟ وبأي صفة؟ ومن وكّلك للاتفاق؟!
وخرجت كما أريد، وحرص على الخروج بالشموع عدد من زملائي الصحفيين.
فلم تتوقف تفاهماته الأمنية حتى وهو على قمّة حركة نضال حقيقية، ثم يأتي الآن ليتحدّث عن أنه مُعارض ويدفع الثمن، ويقوم بتخوين مُعارضة الخارج، فما هو الثمن الذي دفعه؟!.
إننا لا نواجه نظاماً - فقط - مُستبداً، يُمكننا أن نناضل ضده من الداخل، فنحن في مُواجهة قاطع طريق، يقتل، ويحرق، ولا يرقب في مواطن إلا ولا ذمة. ويُحسب لمُعارضة الخارج، أنها من حافظت على الثورة حيّة في وقت باعها فيه «جورج إسحق» بموقع في المجلس القومي لحقوق الإنسان، لم يستطع القيام بدوره المُقرّر له قانوناً، وبشكل لم نعرفه في عهد مبارك!.
إن أعظم ثورة في العصر الحديث، كان قائدها يعيش في الخارج، ما أعطاه حريّة لم يكن سينالها لو كان داخل إيران، وإن الهروب من البطش عرفه التاريخ المسيحي!.
ونحن نحمد الله، أن «جورج إسحق» لم يُعاصر رحلة العائلة المُقدّسة هرباً من الملك هيدودس الأول، وإلّا لزايد على السيد المسيح، والتحق هو بهيدودس وطالب العائلة بالعودة إلى أورشيلم!.
و يا «جورج إسحق»، و يا كل «جورج إسحق»: مكانك!.
أضف تعليقك