بقلم فراس أبو هلال
بغطاء رسمي عربي، وصمت دولي يصل إلى درجة التواطؤ، يرتكب المجلس العسكري مجزرة ضد المعتصمين المدنيين في ميدان القيادة العامة في الخرطوم، بعد أيام من مشاركة رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان في القمة العربية.
الوصول إلى هذه المجزرة لم يكن قرارا اعتباطيا بين يوم وليلة، ولكنه "تتويج" لمسار بدأه المجلس العسكري منذ أسابيع. فقد حسم المجلس خياراته الإقليمية ابتداء، من خلال التمحور مع ما بات يعرف بدول الثورات المضادة، الإمارات والسعودية ومصر، وهي دول تؤمن بخيارات القوة مع الحراكات المدنية السلمية، وتدعم العسكر في أي بلد ضد المدنيين، وتخشى نجاح أية ثورة شعبية في البلاد العربية.
وبعد حسم المجلس العسكري لخياراته الإقليمية بدأ بتدشين حملاته الإعلامية الساعية لنزع الشرعية عن المعتصمين، من خلال توجيه الاتهامات للاعتصام من قبل قيادات عليا على رأسها الجنرال الدموي "حميدتي"، ومن خلال الإيهام بأن المعتصمين يحصلون على دعم خارجي، ويعيقون الحركة، ويثيرون الفوضى في الاعتصام، وغيرها من الاتهامات التي كان من المؤكد أنها تمهد لارتكاب جريمة ضد المعتصمين.
ماذا يهدف "العسكري" من المجزرة؟
يسعى المجلس العسكري من خلال المجزرة لتحقيق عدة أهداف سياسية، في الداخل والخارج، أولها إضعاف المعتصمين وتقليل تأثيرهم على المسار السياسي في البلاد، ومتابعة المفاوضات مع قوى الحرية والتغيير من موقف القوة، وثانيها بث روح الخوف بين المعتصمين من خلال إظهار "قدرته" على استخدام البطش والقوة ضدهم، وثالثها صناعة صورة عن قدرته على السيطرة والتحكم في البلاد لتقديمها لداعميه في الإقليم من محور الثورات المضادة.
يعتقد المجلس العسكري، مدفوعا بالسكر بخمر القوة، أنه يستطيع من خلال العنف "المدروس" أن يخيف المعتصمين، وأن يظهر لهم أنه هو من يتحكم بالسماح بالاعتصام أو منعه، لإضعاف الحراك الجماهيري بسحب "سلاحه" الأقوى وهو الاعتصام، ولذلك فقد أعلن الناطق باسمه شمس الدين الكباشي أن "بإمكان المعتصمين العودة لميدان القيادة" ليوحي بأن المجلس هو من يتحكم بالاعتصام، وهو من يملك السماح له بالاستمرار أو منعه.
أما ما يتعلق بالدور الإقليمي، فقد بات واضحا أن انضمام المجلس العسكري لمحور "الثورات المضادة" يستدعي منه تقديم أوراق "اعتماده" في هذا المحور، وأهم هذه الأوراق هي إظهار القوة والسيطرة والتحكم.
الرد المتوقع من الثورة
يعتمد مسار الأحداث القادم في السودان على رد فعل الثوار، إذ أن الجريمة التي ارتكبت اليوم هي محاولة لجس النبض من قبل المجلس العسكري الذي سيبني خطواته القادمة على رد فعل القوى الثورية.
ان أهم ما يمكن أن يقطع على المجلس نواياه هو التزام الثورة بالسلمية والمدنية، وعدم التورط برفع السلاح في وجه الجيش أو حتى في وجه عصابات "الدعم السريع"، لأن هذا سيؤدي لا قدر الله إلى جر البلاد إلى حرب أهلية جديدة لا يستفيد منها سوى أعداء السودان والثورة، ولن ينتصر فيها سوى القوة الغاشمة للميليشيات المسلحة أو للجيش.
ومع الالتزام بالسلمية فإن الرد المباشر يجب أن يكون الاستفادة من الحالة الثورية والاستمرار بالاعتصام والتصعيد الثوري السلمي، من خلال الإضرابات والعصيان المدني، وبتوزيع أماكن الاعتصامات وعدم اقتصارها على مكان واحد، لأن اجتماع الثوار في مكان واحد يعطي العسكر الفرصة للانقضاض عليهم بضربة واحدة.
ولعل من المفيد هنا الاطلاع على تجارب الثورات السلمية في العالم، والتي تقول تجربتها أن الاعتصامات ليست السبيل الأفضل لانتصار الثورات، بل إن الأساليب الإبداعية التي تحرج الدولة وتعطل عملها هي الأجدى، ومنها الإضراب، والعصيان المدني، والاحتجاج اليومي أمام السفارات الكبرى بما يعيق عملها بشكل سلمي، والتجمعات داخل الوزارات المهمة، والاحتجاج الكثيف أمام المؤسسات السيادية مثل الوزارات المهمة وليس الاقتصار فقط على القيادة العامة للجيش.
وعلاوة على التصعيد الثوري فإن القوى الثورية يجب أن تتبنى مسارا سياسيا واضحا، يلعب لصالح الثورة، وعدم الالتفات للمصالح الحزبية لهذه القوى، لأن صراع المجلس العسكري ليس مع قوى الحرية والتغيير، ولكن مع الثورة وأهدافها المشروعة.
المسار السياسي الذي يفترض أن تتبعه قوى تجمع الحرية والتغيير بعد هذه الجريمة يجب أن يتخلى عن المطلب الساذج بتمديد الفترة الانتقالية، لأن كل يوم يتحكم فيه المجلس العسكري بالسلطة سيبعد السودانيين عن تحقيق أحلامهم، وسيقوي هذا المجلس في مواجهة الثورة.
ثمة بعد آخر في المسار السياسي كان واجبا منذ سقوط البشير، ولكنه أصبح أكثر وجوبا بعد الجريمة، وهو الابتعاد عن الإقصاء ليضم تجمع الحرية كل الأحزاب والشخصيات باستثناء حزب المؤتمر الوطني، وبالتحديد يجب إشراك الإسلاميين من معارضي النظام السابق، سواء كانوا مستقلين أو أحزابا، وخصوصا المؤتمر الشعبي الذي، وإن كان شريكا بما يسمى "ثورة الإنقاذ"، إلا أنه تخلى عن البشير ودخل في صراعات طويلة معه، وتعرض للأذى والاعتقال والتهميش منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي.
مجزرة القيادة العامة اليوم ليست نهاية المطاف، بل يمكن أن تكون منطلقا لمرحلة جديدة من الثورة، تتبنى فهما ثوريا أكثر وعيا وتأثيرا، ومسارا سياسيا ناضجا يمثل الجميع في مواجهة سطوة المجلس العسكري.
أضف تعليقك