• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: فراس أبوهلال

(1)

على زاوية صغيرة عند مدخل معرض فلسطين "Palexpo" في لندن، يقف عدة صبايا وفتيان يؤدون الدبكة الفلسطينية مع الأغاني الوطنية. جمهور متنوع يقف لمشاهدة الدبكة والمشاركة فيها، بينهم شابة إنجليزية في الثلاثينيات من العمر تحمل طفلها الرضيع وتؤدي الدبكة وهي تحمله، وبجانبها شاب بريطاني باكستاني أو بنغالي أو هندي، ويقف في الخلف عجوز إنجليزي مع زوجته العجوز هي الأخرى، يمسك بيديها بحب يليق بعمرهما، وينظر إلى "شباب" الدبكة بحب يليق بفلسطين. خلف العجوز الإنجليزي وزوجته تقف عائلة عراقية شابة وعائلة خليجية أخرى لم أميز لهجتها، ثمة أصوات مصرية وجزائرية ومغربية في الخلفية أيضا، وثمة لغات أخرى لم أعرفها.


هؤلاء جميعهم لم يأتوا لأجل الدبكة، على رمزيتها في معركتنا مع الصهاينة على التراث والهوية، ولكنهم جاءوا ليقولوا للفلسطينيين: "فلسطين ليست لكم"، بل هي لنا جميعا!

(2)
أثناء عدوان الاحتلال على قطاع غزة في عامي 2008-2009، جاء طبيبان هولنديان متطوعان للعمل في مستشفيات القطاع لعلاج الجرحى والمصابين نتيجة العدوان. قام الأطباء بعمل بطولي فعلا بقدومهم للتطوع تحت القصف، وفي ظروف بائسة للمستشفيات في غزة بسبب الحصار والاحتلال، وفي ظل إصابات لم يعهدوها بمستشفيات هولندا الهادئة.


لا زلت أذكر أحد الطبيبين وهو يتحدث في مؤتمر صحفي في نهاية مهمتهما، قال وهو يغالب الدمع ما معناه أن غزة لا بد أن تصمد وأن تنتصر، لأنها تمثل الحق لكل العالم وأحراره، وليس فقط للغزيين أو الفلسطينيين.
جاءا من بلاد بعيدة ليقولا لنا: فلسطين ليست لكم وحدكم، بل هي ملك لأحرار العالم، ولذلك فإن هزيمتها مستحيلة، إلا إذا فني كل أحرار العالم عن بكرة أبيهم!

(3)
في كل زاوية من زوايا معرض فلسطين في لندن، تجده واقفا يحمل أوراقه، بدشداشته و"طاقيته" السوداء، يوجه المتطوعين الذين غالبيتهم ليسوا من العرب أو الفلسطينيين، يجيب على تساؤل متطوع باكستاني عن المحاضرة القادمة في المعرض، ويبتسم بعجل لمتطوع إيرلندي يخبره عن أعداد الحضور للمعرض، ويسلم على متطوعة إنجليزية من بعيد طالبا منها أن تهتم بتوزيع برنامج الفعاليات، وينظر من مكانه لآخر نقطة في القاعة الضخمة ليطمئن عن الأوضاع، بنظرة زهو "بانتصاره" في يومه.. نعم إنه يومه بلا منازع، ذلك البريطاني الآسيوي القادم من أفريقيا، أخصائي البصريات، الذي ترك أعماله ليتفرغ ليوم الاحتفال بالانتصار على محاولات اللوبي الصهيوني لمنع إقامة المعرض.


إنه إسماعيل باتيل، عيناه تقولان لنا: "فلسطين ليست لكم وحدكم"، إنها لي مثلكم تماما، وربما أكثر!

(4)
مانديلا.. ذلك المناضل الطويل القامة، الطويل الهيبة، الطويل النضال، الطويل السجن، وقف عند خروجه من السجن منتصرا ليقول للعالم إن حريتنا لن تكتمل إلا بتحرير الشعب الفلسطيني. رحل مانديلا، وظل نضاله خالدا، ويخلده اليوم حفيده عميد عائلة مانديلا وعضو برلمان جنوب أفريقيا، شيف مانديلا. 

وقف الحفيد الطويل مثل جده، المناضل العنيد مثل جده، الحر مثل جده، وقال في افتتاح معرض فلسطين أمام مئات الحضور الذين جاءوا ليتنسموا عطر ثورة ونضال الأفارقة: "إن حريتنا لن تكتمل إلا بتحرير فلسطين.. لقد كنا منذ السبعينيات نناضل لأجل تحرير جنوب أفريقيا وكان الفلسطينيون يناضلون معنا لتحرير بلادهم.. اليوم جنوب أفريقيا حرة، وغدا ستتحرر فلسطين".


جاء من آلاف الأميال، يحمل معه إرثا لا ينسى من نضالات شعبه بقيادة جده، ليقول لنا: "فلسطين ليست لكم وحدكم.. إنها فلسطيني أنا أيضا، وفلسطين الجنوب أفريقيين"!

(5)
في طائرة متوجهة من المغرب إلى بريطانيا، يجلس عربي فلسطيني إلى جانب شاب مغربي أمازيغي. شعر الفلسطيني بضعف خبرته عندما تحدث الأمازيغي عن تاريخ المغرب وتاريخ الأمازيغ، وشعر بجهله أكثر عندما تحدث الشاب أكثر عن فلسطين والإسلام في ضمير الأمازيغ، أدرك عندها أن فلسطين ليست له فقط، بل لكل أحرار العالم.


وفي أغنية شهيرة للمطرب الرائع سميح الشقير، يقول "لي صديق من كردستان.. اسمه شيفان"، كانت تغني للكرد، وتربط ربطا لا فكاك له بين فلسطين والأكراد.. ففلسطين ليست للعرب فقط، بل للكرد والأمازيغ أيضا.

(6)
في معرض فلسطين "Palexpo" في لندن، تتوزع محلات بيع الأطعمة من كل نوع، بطاطا مقلية على الطريقة الإنجليزية، "باييلا" إسبانية رائعة، كافيه بريطاني تقليدي، وبينهما ثمة زاوية يقف عندها طابور طويل، عند مطعم فلسطيني يقدم الفلافل، رائحته تشبهنا، تشبه رائحة فلسطين، تمثل رمزية أراد كل من يقفون على الطابور أن يؤكدوا انتماءها للحدث، وأن يؤكدوا بؤس محاولة الاحتلال سرقة التراث الفلسطيني بما فيه "الفلافل"، فالاحتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل هو بطبيعته التأسيسية يحاول سرقة التراث والتاريخ والحاضر والمستقبل.


وقف المئات على طابور الفلافل ليقولوا لنا: هذا التراث ليس لكم وحدكم، بل لنا كلنا، كلنا باستثناء الاحتلال.
(7)
ثمة دروس كثيرة لهذا الحدث الكبير "معرض فلسطين"، يمكن الحديث عنها في مناسبات كثيرة، ولكن الدرس الأكبر والطاغي على الحدث هو الرد على كل من يحاول وضع فلسطين في زاوية عنصرية، والتأكيد أن فلسطين تسع العالم كله، وأن زاوية "الفلافل" في المعرض أكبر بكثير حتى مما تتخيله أحلام الرواية الصهيونية!


نعم فلسطين ليست لنا وحدنا.. فلسطين هي النقطة الصغيرة التي يتكثف بها نضال الأحرار في العالم، من كل جنس ولون ودين، ولهذا فلا خوف على فلسطين من تجار الصفقات، ومن ممتهني التنازلات، ومن سراق التاريخ والتراث.

أضف تعليقك