قلت في لحظة العشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، مع اليقين الذي كان يتحدث به المقاول محمد علي عن إزاحة عبد الفتاح السيسي خلال ساعات، إن مصر في مفترق طريق وعرة: إما أن يخرج السيسي من الصورة إلى الأبد، أو يخرج من هذه العاصفة أكثر تسلطًا وتوحشًا مما قبل، لتدخل البلاد في مرحلةٍ جديدةٍ من العنف والدم والقمع.
لم يكن ذلك رجمًا بالغيب أو ادّعاءً لفراسة، بل كان رصدًا للهواجس التي تهيمن على جموع المصريين الذي أفاقوا على دعوةٍ غامضةٍ للخروج من أجل إسقاط حكم السيسي عصر الموعد المضروب للخروج. ومن أسفٍ أن ما أسفر عنه ذلك الصخب المصنوع بعناية أن النظام خرج أكثر تمكّنًا وتوحّشًا وتعطّشًا لمزيد من البطش، فاستردّت الزنازين من نالوا حريتهم قبل تلك اللحظة، واتسعت لتشمل أعدادًا هائلة أخرى ممن كانوا خارجها، من سياسيين وصحافيين ومواطنين عاديين، إلى الحد الذي بدت فيه سلطة عبد الفتاح السيسي وكأنها تسخر من التقارير الدولية المتزايدة عن قتل الحريات في مصر.
حصيلة ما جرى منذ العشرين من سبتمبر هي تصاعدٌ مخيفٌ في معدلات القمع والقهر، وانخفاضٌ مرعبٌ في مستوى معارضة النظام، إلى حدود تلك الأيام من عامي 2014 و2015، حيث عرفت الساحة خطابًا مفرطًا في الاعتماد على الشتائم والسباب ونحت الألقاب والأوصاف بحق عبد الفتاح السيسي، نوعًا من التنفيس عن الغضب والألم، مع تغييب الخطاب السياسي الجاد والمعقول في مخاطبة الرأي العام الدولي والمحلي.
والآن ونحن على أبواب العام 2020، يبدو الخطاب المحسوب على المعارضات المستحدثة وكأنه اجترار لما طفا على السطح قبل نحو خمس سنوات مضت: سخرية لفظية من شخص السيسي وشكله ورسمه، تمامًا كما كان يحدث في 2014 عندما كانت السلطة الموغلة في بذاءة الفعل ورداءة الأداء تسعى إلى حرف مسار المعركة، من مقاومة جريمة سياسيةٍ وحضاريةٍ في حق مصر وثورتها، إلى مطاردة درامية أو سباق مثير في مضمار النكتة والقفشة و"الإيفيه". وهذا من شأنه أن يبتذل المعركة على نحوٍ يتيح للقتلة وسافكي الدماء أن يظهروا في وضع الضحية المشتوم الذي يتعرّض للسخرية والاستهزاء.
وأكرّر أن خطورة هذا الأمر أنه يوجد مجال لمن انقلبوا على كل قيمة أخلاقية، وعلى كل مبدأ حضاري، وعلى كل نزعةٍ إنسانية، أن يتحدّثوا عن الأخلاق والتعايش والقيم الدينية، وذلك كله مردّه أن بعضاً من منافحي الانقلاب قد ابتلعوا الطعم، وهبطوا إلى أرضية الملعب الذي يجيد الانقلابيون الأداء فوقه.
كان ذلك بعض ما رصدته قبل خمس سنوات، وأراه يتجدّد الآن مع الانسحاب المروع لرموز المعارضة الحقيقية، محمد البرادعي نموذجًا، ما أوجد فراغًا هائلًا يكاد يمتلئ الآن بكثير من الهستيريا والخطابات منعدمة القيمة فارغة المضمون التي قد تصلح لصناعة مشتمةٍ ومسخرة، يحسب أصحابها أنهم يصيبون مرمى السيسي، بينما الواقع ينطق إنه يسجل أهدافًا إضافية في مرمى معارضيه.
في ظل هذا البؤس المقيم، تحولت المأساة المصرية إلى موضوعٍ للفرجة، بكثير من الأسى والضحك العابر على منتجات المعارضات المنشأة حديثًا، ليتراجع الخطاب السياسي، ويصمت تمامًا، بحيث لا يجد الجمهور أمامه سوى مهرجانات السوشيال ميديا، الأمر الذي يوفر للنظام فرصة التهام أعدادٍ إضافيةٍ من معارضيه في الداخل، وهو مدركٌ تمامًا أن ما يصدر عن الهيئات الدولية من بيانات إدانة واستنكار سيمر مثل غيره.
وأزعم أن على المعارضة المصرية الآن أن تراجع نفسها وأداءها، وتعيد حساباتها بدقة، وتحاول مجددًا صياغة خطاب مختلف، بعيدًا عن منطق الاستسلام للسائد والعابر، فليس عيبًا أن تتورّط في تبني اختياراتٍ ثبت أنها رديئة .. ولكن العيب أو الجريمة أن تواصل السير مع تيار يعتنق الرداءة، ويستعمل كل أدواته لفرضها حلًا وحيدًا.
أضف تعليقك